حلم لبناني قصير!
جواد بولس
حرير- نحن الجليليّون، نشأنا على حب لبنان، فهو بالنسبة لنا حلم وأمنية. كبرنا على عنّات مواويله وطربنا كلما غانج عود «جارة الوادي» وترغل «زغلول» وصدح. تعلّمنا عن «سبعين» ميخائيل نعيمة فسكنا بسكنتاه وركضنا نفتش عن أقمار أعمارنا في شخروبها. عشقنا «مطران» بعلبك «وطلالها» اللذين علمانا كيف تصير التناهيد أكوام فل ونرجس. أحببنا «بعلبكه» وصلّينا كي نقف على أدراج «باخوسها»، كما وقفت عليها «فيروزة الكون»، ربة السعادة وأيقونة العزة والشرف. حملنا لبنان صغارا في صدورنا «كالهدايا في العلب» ورسمنا على حيطان ليالينا وجه «زحلته»، وغنينا، كلما أنهكنا الشوق، «سعيدها»، شيطان اللغة وصاحب قدموس ورندلى، وطرنا مع «شاله» نحو ذياك القمر. كبرنا وصار لبناننا وطن الإقحوان المشتهى ووعودا لعاصفة الدرويش وتوأم روحه فزحفنا معه خفافا، على طنات عوده شجى.
فرحنا عندما سمعنا خبر الإعلان عن وقف النار بين إسرائيل ولبنان. كان فرحنا مقرونا بترقب وبقلق مما سنواجهه، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، في المستقبل القريب؛ فالحرب على لبنان قد تنتهي، لكن الحكومة الإسرائيلية التي أشعلتها ما زالت ماضية في معاركها على معظم الجبهات الأخرى، وبضمنها على الجبهتين الداخليتين: بقايا ثغور النظام الإسرائيلي السابق، وبقايا حريات أساسية كانت متوفرة لنا.
لقد حافظ المواطنون العرب، طيلة الفترة الماضية، على نمط من السلوك المتّزن، وتصرفوا بقدر كبير من ضبط النفس والحذر الواجب اتّباعه، متجنّبين أن يتحوّلوا إلى «قطعة اللحم» بين سندان مواطنتهم في دولة مارقة ومطارق مؤسساتها المتأهبة للانقضاض عليهم بنهم. بيد أن الحرب تبقى هي الحرب، حاصدة الأعمار وموئدة الآمال؛ وإن وجد الشخص في مرمى نيرانها فحتما ستصله. وهذا فعلا ما حصل عند اشتداد وتائر القصف الإسرائيلي على المواقع اللبنانية، وردود عناصر حزب الله عليها برشقات صاروخية أصاب بعضها، أو بعض صواريخ إسرائيل الاعتراضية، القرى والمدن العربية، فعاش أهلها حالة لم يعهدوها من قبل وقد تسيّدها، بالمختصر، القلق وخوفهم حتى الهلع، أسكن وعائلتي في قرية كفرياسيف القريبة نسبيا من الحدود اللبنانية، عاشت كفرياسيف مثل سائر أخواتها حالة من الفزع الدائم، طيلة الأشهر الماضية، ونالت نصيبها من هذه الحرب عندما سقط على أحد بيوتها صاروخ لم ينفجر بشكل كامل؛ ولو انفجر لسقطت كل بيوت الحارة التي نسكنها على رؤوس سكانها، كما أخبرنا خبراء المتفجرات الذين حضروا إلى الموقع. فرحنا لوقف الحرب؛ لا بسبب ما حصل في كفرياسيف وسائر القرى العربية وحسب، فهذه تعتبر حوادث طفيفة بالمقارنة بمن أحرقتهم نيران القنابل وأطنان المتفجرات، أو من سقطت على رؤوسهم عماراتهم، وبقوا مدفونين تحت ركامها، أو من هجّروا من بيوتهم وتاهوا. فرحنا لأن ما كان يحدث كان عبثيا ولا يستوعبه آدمي عاقل؛ فرحنا لأننا نحب لبنان الساكن دوما في أحلامنا وفي صلواتنا.
ليلتها، عندما توقفت الحرب، ذهبت إلى النوم وفي قلبي فرح عظيم وبقايا تعب وحسرة وغضب كبير؛ فالجنود والناس، هكذا تقول الأساطير ويجزم الشاعر، يموتون ولا يعرفون من كان مهزوما ومن انتصر. نمت وحلمت.
وصلنا مطار بيروت برحلة جوية أقلعت من مطار عمّان. نظرت فوقي فقرأت يافطة مكتوبة بالعربية وعليها «بيروت ترحب بكم». كاد قلبي ينفطر ولم أصدق أنني أطأ أرض أحلامي، فنظرت لرفقائي وأحسست بأنهم مثلي يحلمون. تخطينا نقطة فحص الجوازات وسارت أمورنا بسرعة، فالموظفة استقبلتني ببسمة بيروتية، وختمت جواز سفري وتمنت لنا إجازة سعيدة. اعتلينا الحافلة، وبدأنا نطير نحو عتبات ماضينا بحدقات تفتحت على رعد وديع الصافي، وعبقريات الرحابنة وإبحاراتهم في تعاريج السهول الممتنعة، ورصّعوا سماء الكون بالسعادة وبالفرح.
وصلنا فندقنا بعد منتصف الليل، لم نشعر بأي تعب أو رغبة في النوم، ففي بيروت لا ينام البحارة والعشاق والشعراء. رأيت نفسي في الحلم أجلس مع المرشد المسؤول عن زيارتنا، أناقشه حول البرنامج المعد لنا «كحُجاج» من المفروض أن يزوروا عددا من الأديرة والكنائس والمواقع السياحية المرتبطة بحكايا تلك الأساطير القديمة. كان المرشد لطيفا وأصغى لكل كلمة قلتها. في النهاية اقتنع بأننا مجموعة عشاق جئنا إلى لبنان الذي تربينا على أكتافه وحملناه على أهدابنا كالندى ووضعناه في صدورنا تمائم نستلها كلما ضاع منا أفق أو غابت عنه حبيبة. قلت: لا بأس أن نزور الأديرة ذات المكانة التاريخية والأهمية الحضارية، فلبنان يزخر بها؛ لكننا لن نترك لبنان قبل أن نزور ما جئنا من أجله، مهما كانت النتائج أو الثمن. ضحك وطلب أن أعطيه قائمة أمنياتنا. اعطيته فكتب. سجّل وطوى الورقة ودسّها في صدره وتركنا مع طلائع أول فجر بيروتي تدغدغ أعيننا.
كنا في صالة الإفطار عندما وصل في الصباح مبتسما. توجه نحوي وأخبرني دون مقدمات، أنهم وافقوا على تعديل برنامج الزيارة وسيسمحون لنا بزيارة جميع الأمكنة باستثناء زيارة بعلبك والمختارة. حاول أن يشرح لي أن الأسباب لمعارضتهم تتعلق بالأوضاع الأمنية السائدة في تلك المناطق، وأفهمنا أن للبنان قواعده الخاصة وليس كل ما يتمنى عشاقه يُنل. ناقشته بلهفة وبإصرار حتى اقتنع وفهم أننا على قدر كاف من المسؤولية والنضج لضمان سلامة الزيارة وسلامتنا، فوافق. كان حلمي قصيرا ومليئا بالتفاصيل والحكايا وبالحنين. في اليوم الأول بدأنا بزيارة مبنى مهجور، شغله مرة مصنع للحرير في مخيم «الدامور»، ثم انتقلنا إلى مدينة صيدا فوقفنا على حجارة مينائها وتجولنا في أسواقها وتوقفنا عند مبنى على جداره علقت يافطة كتب عليها «مدرسة عكا». صعدنا نحو «دير المخلص» وتنشقنا زهور منطقة جون. تتالت الأيام، فزرنا مدينة ضهور الشوير التي ما زالت ساحتها المركزية تردد زفرات شاعرها خليل حاوي. لقد استفزه مشهد اغتصاب دبابات جيش الاحتلال الإسرائيلي حضن عروسه/بيروته، فقرر بعزة جنونية أن يرحل مجسّدا، على طريقة أبطال الملاحم، معنى آخر للحرية وأطلق روحه نحو العدم. مررنا على دير القمر فشربنا القهوة تحت ظل تمثال للرئيس كميل شمعون، وزرنا فيها متحف المعلم كمال جنبلاط، ثم انتشينا في ساحة قصر فخر الدين، وخبِرنا كيف كان لبنان مرّة صنوّا للفخار وللشهامة. في زحلة زرنا قبر الشاعر سعيد عقل الذي أوصى أن يكتب على بلاطة قبره «أقول: الحياة العزم حتى إذا أنا انتهيت تولى القبر عزمي من بعدي»، ثم توجهنا إلى مقهى «عرابي» الذي تعانق طاولاته مياه نهر «البردوني» فحدثنا النهر أين وكيف نحت الأمير أحمد شوقي رائعته في زحله وقال فيها مناجيا التاريخ: «إن تُكرِمي يا زحلُ شِعريَ إنني، أنكرتُ كلَّ قصيدةٍ إلّاك/ أنتِ الخيالُ: بديعُه، وغريبُه، ألله صاغكِ، والزمانُ رواكِ». هناك في حضرة العز أكرمتنا «جارة الوادي» وكان «محمدها» حاضرا بكل وقاره وهيبته.
كنا نسابق الزمن، كأطفال يخشون أن تسرق الأصباح منهم أحلامهم. تنقلنا كالفراشات تتراكض في بساتين الشوق واللهفة. كان فرحي معجونا بغصة، فلبنان الذي جئناه وجدناه دولا ومحظيات. لم تصادفنا حدود، كتلك التي بين الدول؛ لكننا مررنا بحواجز كانت تشغلها عناصر جيش لبنان. كانوا، او هكذا شعرت، ليس أكثر من تذكارات هشة لسيادة منسية في دولة لم تعرف معنى السيادة، إلا وهي «منهوشة» بتوافق خبيث بين طوائفها وميليشياتها. بعد كل حاجز شعرت بأننا ننتقل من مقاطعة/دويلة إلى أخرى. عرفت ذلك من تغيير الأعلام وصور الزعامات المنصوبة على جنبات الشوارع الرئيسية وعند مداخل المدن وفي ساحاتها. شارات وشعارات ورايات تدلّك أين أنت وأي سيادة ترعاك.
كان حلمي قصيرا وموجعا. زرت فيه بعلبك ووقفت أكفكف دموعي على أدراجها وقبضت على ذرى التاريخ بين أعمدة هياكلها، وزرت بشرّي جبران، ومختارة جنبلاط ونيحا وديع الصافي حاضنة قبره، ودير القديسة رفقة ومار انطونيوس وجبيل ببهائها التليد، وشوارع عمشيت التي مشيتها وأنفاس «مرسيلها» تدفئ نهاري. وكانت بيروت المدينة التي ينام فيها الخوف والشعر والقمر. نمت فرحا لتوقف الحرب على لبنان وصحوت وفي قلبي غصتان وخوف؛ غصة على لبنان الجريح الذي لم يهتد بعد إلى طريق خلاصه، وغصة على فلسطين الذبيحة.