ميسي الذي يغرف من بحر…. سليمان المعمري

منذ يومين أطفأ ليونيل ميسي شمعته الرابعة والثلاثين، ومازال مالئ الدنيا وشاغل الناس. وإذا كان هذا العُمر يعد للاعبٍ عادي هو عمر الشيخوخة، فإنه للاعبين استثنائيين من طراز ميسي ورونالدو وزلاتان إبراهيموفيتش لا يعني أي شيء. من هؤلاء الثلاثة سيظل ميسي بالنسبة لي معجزة لا تتكرر، مذنّب هالي لا يظهر إلا مرة واحدة كل ثلاثة أرباع القرن. صحيح أن لديّ أسبابي الوجيهة التي تجعلني لا أبدل بمارادونا بديلًا، وأرفض أن يقارن ميسي به، لكن مارادونا نفسه هو مَنْ وصف “البرغوث” –وهو واحد من الألقاب الأثيرة لميسي- في غير مناسبة بأنه خليفته، وأن مخزون موهبته لا حدود له. أما صديق مارادونا الشخصي وزميله في مونديال المكسيك 1986 خورخي فالدانو فيُدلي بهذه الشهادة الموحية: “أفضل لاعب في العالم هو ميسي، بينما ثاني أفضل لاعب في العالم هو ميسي أثناء إصابته”.

كيف وصل ميسي إلى هذا المستوى؟ كيف تسنّم قمة الكرة العالمية لسنوات وسنوات دون أن يزحزحه أحدٌ عن مكانته؟. هل هي الموهبة التي وهبه الله إياها منذ صغره؟ هل هي أكاديمية برشلونة التي صقلته منذ نعومة أقدامه؟ هل هي رعايته لموهبته باتباع نظامَيْ تدريب وغذاء صارمَيْن، وابتعاده عن حياة الليل الصاخبة التي أطاحت ببعض نظرائه في الموهبة كزميله السابق في برشلونة رونالدينيو؟ هل هو استقراره في نادٍ واحد لأكثر من عشرين عاما؟ هل هو تركيزه في اللعب وتركه الأمور الأخرى لأبيه؟ لعلها كل هذه الأسباب مجتمعة، ولعل ثمة أسبابًا أخرى لا نعلمها.
منذ وقّع لبرشلونة – على منديل طعام! – في 14 ديسمبر 2000 وهو لم يزل بعدُ صبيًّا خجولًا لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، وحتى اليوم، فعل ميسي الأعاجيب، وحطم الأرقام القياسية في تسجيل الأهداف وصنعها، وقدم لمشاهديه متعة غير مسبوقة، وحقق كل الألقاب التي يحلم بها لاعب كرة: أربع مرات بطلًا لأبطال أوروبا مع برشلونة. عشر مرات بطلًا للدوري الإسباني، سبع مرات بطلًا لملك إسبانيا، ثماني مرات بطلًا لكأس السوبر الإسباني، ثلاث مرات بطلًا لكأس السوبر الأوروبي، ثلاث مرات بطلًا لكأس العالم للأندية، مرة واحدة بطلًا لكأس العالم للمنتخبات تحت عشرين سنة. ست مرات أفضل لاعب في العالم. كل الألقاب حققها تقريبا باستثناء لقب وحيد؛ كأس العالم مع الأرجنتين. ولعل هذا هو السبب الذي جعل كثيرين يترددون في منحه لقب أفضل لاعب كرة قدم في التاريخ، وأظنهم محقين في ذلك. فمواطنه مارادونا استطاع أن يجلب هذه الكأس عام 1986 في ظروف منافسة أقوى، وفي ظرف شخصي أصعب بكثير من ظروف ميسي، فلم يكن قانون حماية اللاعبين الموهوبين من عنف خصومهم قد ظهر في عهد مارادونا، بعكس ميسي الذي صار يصول ويجول في الملعب تحت الحماية الصارمة لقوانين اللعبة.
يحلو للبعض مقارنة ميسي بالبرتغالي كريستيانو رونالدو الذي يكبره بعامين، استنادًا إلى تنافسهما السنوي على جائزة أفضل لاعب في العالم، ولكونهما لسنوات طويلة رمزَيْ أكبر ناديين متنافسَين في العالم: برشلونة وريال مدريد. لكنني أعرف أن الفرق بينهما هو كالفرق الذي أوردتْه كتب الأدب بين الشاعرين جرير والفرزدق. فقد وُصف جرير بأنه “يغرف من بحر”، في حين وصف الفرزدق بأنه “ينحت في صخر”، والغرف من البحر كناية عن السهولة التي يجدها جرير في قول الشعر بشكل عفوي لا يحتاج إلى تحضير، تماما كميسي الذي يتميز بمهارات فطرية، تخرج هكذا بسهولة دون الحاجة إلى بذل مجهود كبير لتعلمها أو التدرّب عليها. أما الفرزدق فهو “ينحت في صخر” لأنه يعتمد على الصنعة أكثر من اعتماده على الموهبة، إذ تعتمد القصيدة لديه على قوة السبك والتعقيد وغريب اللفظ، وقد تذمّر مرة قائلًا: “يأتي عليَّ وقت يكون فيه قلع ضرس أهون عليَّ من قول بيت شعر”، وهكذا هو رونالدو الذي وصل إلى ما وصل إليه اليوم من مكانة، بالعمل؛ العمل المضني وحده. لقد كان يتدرب كثيرًا ليكتسب مهارات لعبه، ويفرض على نفسه عادات غذائية صحية صارمة، تجسدتْ أخيرًا في مؤتمره الصحفي الأخير خلال كأس أمم أوروبا عندما أزاح زجاجات الكوكاكولا من أمامه متسببا –بهذه الحركة العفوية- في خسارة فادحة للشركة قدرت بمليارات الدولارات. كان ميسي درسًا بليغًا للعالم في كيفية رعاية الموهبة وحمايتها وتنميتها، فيما كان رونالدو درسًا آخر في أنك تستطيع مجابهة من يفوقونك موهبة، بالعمل، والجد والاجتهاد.
أطفأ ميسي شمعته الرابعة والثلاثين إذن، بينما العالم كله يترقب إلى أين ستكون وجهته القادمة. هل سيواصل مسيرته مع النادي الذي احتضنه منذ كان طفلًا؟ أم تصدق التكهنات بانتقاله القريب إلى نادٍ أوروبي آخر؟. من وجهة نظري الشخصية سيكون غبيًّا إن فارق ناديه الذي حقق له كل شيء. وما دمنا وصفناه بأنه “يغرف من بحر” فإن هذا البحر ليس سوى نادي برشلونة، وإذا قرر تركه فسيكون كسمكة آثرت الخروج من البحر الكبير وارتضت العيش في حوض زجاجي!، ولا يهم بعدها أن يكون اسم هذا الحوض “باريس سان جرمان” أو “مانشيستر سيتي”، أو أي اسم آخر.

سليمان المعمري
جريدة عمان. عدد الأحد 27 يونيو 2021م
https://www.omandaily.om/%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%AF%D8%A9/na/%D9%86%D9%88%D8%A7%D9%81%D8%B0-%D9%85%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%8A%D8%BA%D8%B1%D9%81-%D9%85%D9%86-%D8%A8%D8%AD%D8%B1

مقالات ذات صلة