الفنانون السوريون صمتوا أعواماً ونطقوا نفاقاً

د. فيصل القاسم

حرير- نعرف «مثقفين» و«كتاباً» و«فنانين» بين قوسين طبعاً، ومخرجي ومؤلفي وممثلي وممثلات مسلسلات ظلوا صامتين ساكتين على مدى أربعة عشر عاماً، لم ينبسوا ببنت شفة، ولم يكتبوا كلمة واحدة ضد نظام الظلم والطغيان الأسدي، لا بل كانوا يتفاخرون بعلاقتهم مع الفار وضباط الأمن والجيش الكبار وغيرهم من أركان العصابة الحاكمة. وعندما كنا نسأل هؤلاء عن رأيهم في ثورة الشعب السوري، كانوا يقولون لنا حرفياً: «رأينا لا يقدم ولا يؤخر»، لكنهم اليوم ما شاء الله استلوا أقلامهم وموبايلاتهم وراحوا يكتبون ويتحدثون بعنفوان شديد في القضايا السورية الراهنة، وقد تحولوا إلى أسود هصورة يضربون يُمنة ويُسرة.

ما الذي يُثير الغثيان أكثر من مشهد الدمار في سوريا يا ترى؟

هل هو مشهد البراميل، أو رائحة الجثث التي التصقت بجدران المدن، أم أولئك الذين جلسوا في دفء بيوتهم، صامتين، مرتجفين، خائفين، بينما الناس كانت تُساق إلى المذابح. أولئك الذين لبسوا ثياب «الفن» و«الثقافة» لكنهم لم يجرؤوا على كلمة واحدة في وجه السفّاح. ثم فجأة، صحوا اليوم من نومهم الطويل، وقرروا أن يصبحوا «أبطالاً فيسبوكيين» ورموزاً للحرية ونقاداً للوضع الراهن. يا للسخرية!

طوال أربعة عشر عاماً، كان معظم الفنانين السوريين يشاهدون

قصف المدن وتهجير سكانها، وكانوا يضحكون في المهرجانات والمقاهي والمطاعم والفنادق، ويتبادلون القُبل في حفلات التكريم، ويغنّون للعلم الذي لطّخته البراميل بالدم، ويلتقطون الصور التذكارية في قصر الطاغية الهارب. كانوا يكتبون نصوصاً عن «الفساد» و«المجتمع» دون أن تجرؤ أي كلمة على ذكر اسم القاتل الحقيقي، وكأن سوريا تعيش أزمة فلسفية لا مجازر بشرية.

كان المخرج يقدّم مسلسلاً عن «معاناة المواطن»، والكاتب يضع في الحوار جملةً رمزيةً عن «الظلم»، والفنان يعبّر عن «الإنسانية»، وكلّهم يعلمون أن ما يفعلونه ليس فناً، بل عملية تلميع وتجميل لوجه الجريمة. لقد تحوّل الفن في زمن الأسد إلى مرآةٍ مزيّفة تُظهر القاتل في صورة الحامي، وتُخفي أنياب الوحش تحت مساحيق الكلمات.

أما أولئك الذين كانوا «صامتين»، فهم أخطر من المصفقين.

لأن الصامت، في زمن الجريمة، لا يختلف عن المشارك.

كل من سكت حين كان الكلام يُكلّف حياة، هو شريك في الجريمة ولو بقطرة صمت. كل من قال «رأيي لا يقدم ولا يؤخر» حين كان الوطن يُذبح، هو جبان يُزيّن جبنه بشعار الحياد. أي حياد هذا بين القاتل والمقتول؟ بين الجلاد والضحية؟ الحياد في زمن الدم ليس موقفاً، بل سقوط أخلاقي كامل.

واليوم، بعد أربعة عشر عاماً، رأيناهم جميعاً يعودون إلى الواجهة، يتحدثون عن التغيير، لا بل إن بعضهم تذكر فجأة أن النظام الساقط كان سيئاً، وأن سوريا مازالت سيئة. وراح بعضهم يزايد على من دفعوا الثمن فعلاً، يكتبون منشورات نارية وكأنهم كانوا في الميدان، وكأنهم لم يقضوا عمرهم في صالات النظام ومهرجاناته. يا للعجب، كيف تحوّل الخوف إلى بطولة بأثرٍ رجعي!

كيف صار الجبن فلسفة، والنفاق وعياً، والصمت حكمة!

نحن لا نحاسب الناس على خوفهم، فالخوف غريزة بشرية، لكننا نحاسبهم على تزييف التاريخ. من صمت فليعترف بصمته، ومن نافق فليعترف بنفاقه، أما أن يتحوّل المتواطئ إلى بطل بودكاست، فتلك جريمة جديدة بحق الذاكرة السورية.

انظروا إلى المشهد اليوم: أسماء لامعة من الوسط الفني والإعلامي، كانت حتى الأمس تسبّح بحمد النظام، تمدح «القائد»، تشارك في الدراما الممولة من المخابرات، واليوم تكتب منشورات غاضبة على فيسبوك وتويتر، وكأنها جزء من ثورة لم تقترب منها يوماً. ممثل كان يصفق في احتفال رسمي عام 2012، اليوم ينشر فيديوهات ينتقد فيها الوضع الحالي. مخرجة كانت تقول في لقاء تلفزيوني إن «الرئيس هو رمز الكرامة»، اليوم تتحدث عن «كرامة المواطن» وكاتب كان يتعامل مع المستنقع الأسدي بقفاز من حرير صار اليوم يصب جام غضبه بصفاقة فاقعة على الوضع الجديد!

وكي لا نتحدث في الهواء، يكفي أن نتأمل أسماء معروفة في الوسط الفني السوري. كم من ممثلٍ شهيرٍ كان يمدح النظام علناً، ثم اليوم ينتقد «الوضع الاقتصادي» و«الظلم الاجتماعي» بعبارات ملتوية! كم من فنانٍ صمت حين كانت المدن تُباد، لكنه اليوم يكتب منشوراً تافهاً عن «ضرورة الإصلاح» ليُلمّع صورته أمام الجمهور! بل إن بعضهم يعيش اليوم خارج سوريا، ويُحاول تبييض ماضيه بالحديث عن «الحرية» التي لم يجرؤ على لفظ اسمها حين كان يعيش في كنف الأسد.

نعم، كلنا نعرف الأسماء. نعرف من وقف مع القاتل ومن صمت، ونعرف من باع ضميره مقابل دورٍ تلفزيوني، أو جواز سفرٍ، أو بيتٍ آمنٍ في دمشق. التاريخ لا يُمحى بالمونتاج، ولا يُعاد كتابته بمنشورٍ على إنستغرام. الدم لا يُنسى، والجبن لا يُغسل بماء الكلمات.

ولذلك نقولها بصوتٍ واضح: لسنا ضد أن يتحرر الإنسان من خوفه، لكننا ضد أن يتحوّل الخوف إلى بطولة متأخرة. لسنا ضد أن ينتقد الفنان النظام، لكننا ضد أن يتحدث كمن لم يكن يوماً جزءاً من ماكينة الكذب. فمن أراد التوبة، فليبدأ بالاعتراف، لا بالتمثيل.

أما أنتم، يا من صمتّم أربعة عشر عاماً، ثم خرجتم اليوم لتتحدثوا عن «الوضع السيئ»، فاعذرونا…الشعب الذي دفع ثمن الكلمة دماً، لا يحتاج إلى من يبيعها اليوم بخصمٍ موسمي. عودوا إلى مقاعدكم، إلى صمتكم الأول، فالتاريخ كتب أسماءكم بالفعل في صفحةٍ واحدة: صفحة الخونة بالصمت.

الفن ليس زخرفةً جماليةً على هامش الواقع، بل هو ضمير الأمم حين تخونها السياسة. وعندما يُصادر النظام هذا الضمير، ويتحوّل الفنان إلى بوقٍ، والمثقف إلى شاهد زور، يتحول الفن من رسالة إلى سلعة، ومن موقف إلى زينةٍ للسلطة. الفن الحقيقي لا يُولد من الخوف، ولا يعيش في القصور، بل في قلب الشارع، بين الناس، في الصرخة الأولى التي تقول «لا» حين يصمت الجميع. وحين يصبح الفن مهادناً، صامتاً، مُداراً بأوامر الأجهزة الأمنية، فإنه يفقد روحه، ويصبح نسخةً فاخرة من الكذب.

وما يحدث اليوم من «صحوةٍ متأخرة» ليس عودةً للفن، بل محاولة لتزيين القبر الذي دُفن فيه ضمير الفنان. فالحرية لا تحتاج ممثلين، بل شجعاناً. والفن الذي لا يدافع عن الإنسان، لا يستحق أن يُسمّى فناً.

نعرفكم جيداً أيها الرويبضات. ومرة أخرى لسنا طبعاً ضد تحرركم من الخوف ومن حقكم أن تنتقدوا كل شيء في سوريا اليوم، لكن سؤال بسيط فقط: لماذا سكتّم أربعة عشر عاماً؟ لماذا لا تعترفون اليوم أنكم على الأقل أصبحتم قادرين أن تفتحوا أفواهكم خارج عيادة طبيب الأسنان؟

مقالات ذات صلة