
رصاصة ممداني في رأس ترامب
عبد الحليم قنديل
حرير- بدا كعاصفة رياح عاتية حارة مقبلة من الجنوب العالمي بثقافاته وأديانه وأشواقه، إنه زهران ممداني الفائز أخيرا على نحو ساحق بمنصب عمدة مدينة نيويورك، أكبر وأغنى مدينة أمريكية، وعاصمة المال والأعمال في الدنيا كلها، وفيها وفي ولايتها 180 ألف مليونير و144 مليارديرا، وفيها بورصة وول ستريت وبرج دونالد ترامب، الذي حطم فوز ممداني أسطورته البهلوانية الكاذبة.
وفي نيويورك أيضا، جرت حوادث 11 سبتمبر 2001 وتدمير برجي مركز التجارة العالمي، التي استنفرت وقتها موجة هائلة من مشاعر الإسلاموفوبيا وكراهية المسلمين، لم تسلم منها عائلة ممداني نفسه، وكانت من ضحاياها ابنة عمته، ونصحه عمه أول قدومه لأمريكا، أن يخفي هويته كمسلم، وقد فعل زهران العكس بالضبط، وخرج من ظلال التخفي إلى أضواء الافتخار بإسلامه، فقد جاء ممداني من أصول هندية وافريقية مختلطة، ولد قبل 34 سنة في كمبالا عاصمة أوغندا، وانتقل للعيش سنوات في كيب تاون بجنوب افريقيا، وذهب مع والديه مهاجرا إلى أمريكا، أمه من أصول هندوسية، وهي منتجة ومخرجة سينمائية، ووالده محمود ممداني مسلم شيعي، ويعمل أستاذا في جامعة كولومبيا، وزوجة زهران نفسه الفنانة التشكيلية راما دوجي، من أصول عربية سورية علوية.
وفي شهور حملته الانتخابية اللاهثة، أنفق خصومه العتاة عشرات ملايين الدولارات لاغتياله معنويا، وصوروه كأنه إرهابي جهادي، ومن دون أن يكف ممداني عن الجهر بصفته مسلما يعتز بدينه، وتقدميا منفتحا على الثقافات كلها، ووجه رسالة مؤثرة باللغة العربية، قال للمهاجرين العرب الأمريكيين فيها، وبالنص ما يلي، أنا صهركم، وأحب الكنافة النابلسية، وأدعوكم للقدوم إلى نيويورك، وعمل مشاريعكم الصغيرة فيها .
وفي خطاب النصر الذي تحدى فيه ترامب، أعرب ممداني عن عظيم اعتزازه بكونه مهاجرا، وقال إن نيويورك هي مدينة المهاجرين، وإنه أول عمدة للمدينة الكبرى من المهاجرين، وكان زهران قد اكتسب الجنسية الأمريكية عام 2018، أى في عهد رئاسة ترامب الأولى، وكان نشاطه السياسي والاجتماعي مليئا بالحيوية المتدفقة، وفاز بمقعد ثمين في مجلس بلدية نيويورك، وشارك في إضراب السائقين، واتسعت دوائر تكوينه وشغفه الثقافي والفني، وعمل مغنيا في فرق موسيقى الراب، وفي رقصات وثقافة الهيب هوب، واندمج في تيار الرفض والاحتجاج الثقافي الاجتماعي، وكانت اختياراته نابعة من رقي تربيته الأولى، ودراسته الجامعية العالية، وكسب نطاقا متسعا من التأييد العابر لثقافات وأعراق المهاجرين المضطهدين، وكانت الدفعة الكبرى في حياته السياسية في يونيو 2025، حين اختاره أعضاء حزبه الديمقراطي بالأغلبية مرشحا لهم على منصب عمدة نيويورك، ولم يرق ذلك أبدا لحملة مفاتيح الحزب الديمقراطي، ولا للمليارديرات وجماعات الضغط الكبرى، وصمموا على ترشيح أندرو كومو عمدة نيويورك السابق، المستقيل بفضيحة جنسية، الذي أيده ترامب بقوة وأهمل مرشح حزبه الجمهوري، رغم ذلك فاز ممداني، الذي تحدث باللغات الأوردية والهندية والإسبانية والعربية مع الإنكليزية، إلى جماهير المهاجرين، وهم يشكلون ثلث سكان نيويورك على الأقل، وكثف اعتماده على وسائط التواصل الاجتماعي المتاحة، وكسب لحملته مئة ألف متطوع متحمس، وكان ذلك من أسرار فوزه المذهل، وصعوده لمنصب العمدة بامتياز، وكأصغر عمدة للمدينة منذ مئة سنة . غير أن السر الأعظم في دراما صعود ممداني، كان في انحيازه الاجتماعي الصريح المباشر، فهو يصف نفسه بأنه اشتراكي ديمقراطي، ويصفه الخصوم وأولهم ترامب بالشيوعية، وكان يفضل عليه كومو الديمقراطي السيئ الفاسد، وبما يذكر بالحملات المكارثية ضد المثقفين الاشتراكيين والشيوعيين في خمسينيات القرن العشرين، لكن ضراوة الحملات الموجهة ضده في شبكات التلفزيون الكبرى وإعلاناتها، لم تزد ممداني إلا صلابة وإصرارا وشجاعة على الجهر بانحيازاته الراديكالية للفقراء والطبقة العاملة والمهمشين، رغم أن ممداني شخصيا وأهله من الطبقة الوسطى المستريحة.
قدم زهران برنامجه المؤلف من عنوان قصير هو خفض تكاليف المعيشة، عبر زيادة وتحصيل الضرائب من الأثرياء والمليارديرات، وتمويل برنامج لتثبيت إيجارات الشقق والمنازل، وبناء 200 ألف وحدة سكنية جديدة، وإتاحة التنقل بالمجان للفقراء في وسائل المواصلات العامة، وتوفير الرعاية شبه المجانية للأطفال، والقضاء على الفساد البيروقراطي ونهب الأموال والتهرب الضريبي، وحفظ كرامة آلاف المشردين في شوارع المدينة، التي يبلغ ناتجها الإجمالي سنويا أكثر من تريليون دولار، ويعيش أغلب سكانها الإثني عشر مليونا في ضنك ومعاناة، مع تردى الخدمات العامة، وبسبب صراحته اليسارية وطلاقة لسانه وجاذبيته الشخصية الفياضة، استطاع هزيمة ترامب شخصيا، ولم يهزم فقط غريمه المحلى كومو، وكهنة الحزب الديمقراطي المتواطئين فعليا مع الأغنياء، ومع إيلون ماسك، الذي هاجم ممداني بقسوة وحذر من شيوعيته، وماسك هو أغنى أغنياء العالم، وتقترب ثروته حثيثا من رقم التريليون دولار .
ولا تخفى أبدا نزعة ممداني الفلسطينية، فوالده الأستاذ في جامعة كولومبيا، كان صديقا للمفكر الفلسطيني العالمي الراحل إدوارد سعيد، وواجه الوالد محمود ممداني حملة الصهاينة المسعورة ضد المنحازين للحق الفلسطيني، وركام اتهاماتهم السخيفة بالعداء للسامية والعداء لليهود، ومن أقواله الأساسية المضيئة، إن العداء للصهيونية ليس عداء للسامية، وورث زهران عن أبيه رؤيته التقدمية المنحازة لحق تحرير فلسطين، صحيح أنه عبر عن اختلافه مع حركة حماس مرات، لكنه لم يتخلف في حياته الناضجة ونشاطه العام عن مساندة القضية الفلسطينية العادلة، وفي سنوات دراسته الجامعية، انتمى وساند بحرارة حركة طلابية باسم حركة العدالة من أجل فلسطين، وفي السنوات الأخيرة لم يتخلف أبدا عن نصرة المقاومة، ورفض حرب الإبادة الجماعية الأمريكية الإسرائيلية في غزة، وطالب مرارا باعتقال بنيامين نتنياهو مجرم الحرب المدان من محكمة الجنايات الدولية، وهدد بتنفيذ أمر اعتقال نتنياهو إن جاء إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، ونعت إسرائيل بأنها دولة إبادة جماعية وفصل عنصري، ورغم وجود جالية يهودية كبيرة في نيويورك، هي أكبر جالية يهودية خارج كيان الاحتلال، وتمثل ما يزيد على عشرين في المئة من إجمالي عدد اليهود الأمريكيين، فوق أن نيويورك نفسها أكبر مسارح نشاط اللوبي الصهيوني، وجماعة الإيباك عاتية النفوذ في توجيه السياسة الأمريكية، إلا أن زهران ظل يميز بوضوح بين اليهودية كدين، والصهيونية كعقيدة احتلال استيطاني إحلالي إفنائي للفلسطينيين، وخاطب أجيال اليهود الجديدة بالذات، واستطاع زهران الحصول على ثلث أصوات الناخبين اليهود في نيويورك، بينما حصل كومو والمرشح الجمهوري على الثلثين الباقيين، وكان ذلك هزيمة مضافة لدوائر النفوذ الصهيوني في أهم قلاعه، وهو ما يفسر ردود الفعل الإسرائيلية المفزوعة المصدومة المرتعبة من عواقب فوز ممداني، وعلى طريقة صيحة سقطت نيويورك التي أطلقها وزير الحرب والخارجية الإسرائيلي الأسبق أفيغدور ليبرمان، وتحذير جلعاد إردان سفير العدو السابق في واشنطن من صدمة نيويورك، وتخوفه من احتمال تكرارها في كل أنحاء الولايات المتحدة وفي الكونغرس وحتى في البيت الأبيض .
وفي تطورات الداخل الأمريكي، فقد أطلق فوز ممداني رصاصة خارقة في رأس ترامب، خصوصا أنه تزامن، وفي الليلة ذاتها مع انتصارات انتخابية بالجملة للحزب الديمقراطي، فقد فاز الديمقراطيون بمنصبي حاكمي ولايتي نيوجيرسي وفرجينيا، إضافة لنجاح الاستفتاء الشعبي الذي أجراه الديمقراطيون في ولاية كاليفورنيا لإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية لصالحهم، والرد بالمثل على ما فعله ترامب في ولاية تكساس، وهو ما عكس تطورا ونوعا من صحوة الديمقراطيين، وتوقع فوزهم على ترامب وحزبه في انتخابات تجديد مجلسي الكونغرس في نوفمبر 2026، وهو ما انعكس على مزاج ترامب المتقلب العشوائي، الذي تنصل من المرشحين الجمهوريين الخاسرين، وقال ببساطة لم يكن اسمى على بطاقات الاقتراع، وأرجع هزائم حزبه إلى امتداد حالة الإغلاق الحكومي، التي تخسر أمريكا بسببها نحو 15 مليار دولار كل أسبوع، وتؤثر سلبا وبشدة على الخدمات العامة الصحية والمعيشية والطيران الداخلي بالذات، وهذه أطول فترات الإغلاق في التاريخ الأمريكي كله، وتشكل مأزقا لحكم ترامب، وتفاقم ضيقا بين ملايين الأمريكيين من استبداد ترامب وأكاذيبه الفاقعة عن حالة الاقتصاد.
صحيح أن ممداني لا ينتمي إلى التيار الوسطى الغالب في الحزب الديمقراطي المعارض اليوم، وإنما إلى الاتجاه الديمقراطي التقدمي، وهو يضم عددا قليلا من القيادات البارزة في زعامة الحزب الذي لا يزال منهكا، من بؤس فترة حكم بايدن، لكن خيبة حكم ترامب المبكرة، قد تمنح الحزب الديمقراطي أنفاس إفاقة، بدت ظاهرة للعيان لحظة فوز الفارس زهران ممداني .



