ممداني الاشتراكي المسلم الذي قلب معادلة نيويورك

صادق الطائي

حرير- لم يكن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك حدثا انتخابيا عابرا، بل علامة فارقة في التاريخ السياسي والاجتماعي الأمريكي. فابن العائلة المهاجرة ذات الأصول الهندية، الذي وُلد في كمبالا بأوغندا عام 1991، ونشأ بين أبٍ مفكر مرموق في دراسات ما بعد الاستعمار والأنثروبولوجيا الافريقية، وأمٍّ مخرجة ومنتجة سينمائية بارزة في السينما الأمريكية المستقلة، نجح في أن يجعل من قصته العائلية مرآة لمفهوم «أمريكا المتعددة»، تلك التي تنتمي فيها كل الهويات المتشابكة إلى مدينة واحدة اسمها نيويورك.

نشأ زهران في بيئة فكرية منفتحة، تشرب منها القيم النقدية والالتزام بالعدالة، فوالده الأستاذ الجامعي والكاتب المعروف محمود ممداني، يعدّ أحد أبرز الأصوات التي نقدت الموروث الاستعماري في الفكر الغربي، أما والدته ميرا ناير، فهي المخرجة الحائزة جوائز عالمية في مهرجانات كبرى، مثل مهرجان كان، كما رشحت أفلامها لنيل جائزة الأوسكار والغولدن غلوب، وقد أسست مدرسة فنية متفردة تمزج بين الواقعي والإنساني في أفلامها، التي سلطت الضوء على قضايا المهاجرين والهويات المهمشة. هذه الخلفية جعلت من الشاب زهران نتاجا طبيعيا لعائلة تؤمن بقوة المعرفة والفن في خدمة التغيير الاجتماعي.

كما يقف وراء نجاحه الانتخابي أيضا، فصل آخر لا يقل أهمية عن سيرته الشخصية، ويتمثل في دور زوجته السورية الأصل، راما دواجي، التي أدارت حملته الانتخابية باقتدار وقدّمت نموذجا جديدا لشراكة سياسية وأسرية تتجاوز الانتماءات القومية والدينية نحو مشروع إنساني تقدّمي. بفضل هذا الفريق المصغّر تحوّلت حملته إلى واحدة من أنجح التجارب الميدانية في التاريخ السياسي الأمريكي الحديث، إذ جمع أكثر من مئة ألف متطوع من مختلف الأعمار والخلفيات، ليصنعوا ما وصفته صحيفة «الغارديان» البريطانية بأنه «أعظم عملية تعبئة انتخابية شهدتها نيويورك منذ نصف قرن».

تأسس خطاب زهران ممداني الانتخابي على ما سماه «السياسة من الأسفل إلى الأعلى»، إذ اعتمد على الإصغاء إلى الناس، بدلا من إلقاء المحاضرات عليهم. وركّز على قضايا المعيشة مثل: تجميد الإيجارات لحماية المستأجرين، والنقل العام المجاني، والرعاية المجانية للأطفال، من عمر ستة أسابيع إلى خمس سنوات، إلى جانب مشروع «المتاجر البلدية» منخفضة الأسعار، وبناء 200 ألف وحدة سكنية واطئة الكلفة. وبدلا من وعود غامضة، قدّم برنامجا قابلا للقياس والتمويل، من خلال زيادة الضرائب على الشركات والأثرياء. ولهذا، كما أشار عدد من المراقبين، فإن فوزه لم يكن نتيجة أصله أو دينه، بل ثمرة «برنامج طموح منح الفقراء والمهمشين أملا في التغيير».

في عالم ما بعد ترامب، شكّل ممداني تحديا مزدوجا: فهو مسلم، اشتراكي، شاب، ويتحدث بجرأة ضد النزعة الترامبية العنصرية الشعبوية، لكنه في المقابل حرص على أن تكون معركته ضد العنصرية الاقتصادية والاجتماعية، لا ضد الهوية الأمريكية ذاتها. لذلك قال في خطابه بعد الفوز:» لن تكون نيويورك بعد اليوم مدينة يمكن أن تكسب فيها الانتخابات بالاتجار بالإسلاموفوبيا». جاءت ردود الأفعال على فوزه متباينة حدّ التناقض. فبعض الأوساط الإسلامية والعربية احتفت به بوصفه «انتصارا للإسلام في الغرب»، وكأن هوية الرجل الدينية وحدها هي الحدث، في المقابل، رأت تيارات اليسار العربي في صعوده «انتصارا للاشتراكية» وبداية لتحول أمريكي نحو العدالة الاجتماعية. وبين التهليلين، غابت القراءة العقلانية، إذ تجاهل الطرفان أن الرجل فاز لأنه قدّم برنامجا واقعيا لمدينة مأزومة بالغلاء والسكن والتمييز الطبقي. كما كتب أحد المفكرين العرب في مقال بعنوان «أزمة الفكر السياسي العربي»، «الفوز لا يُقاس بالهوية الدينية، بل بقدرة الديمقراطية على إنتاج بدائل، زهران ممداني لم ينتصر كمسلم، بل كسياسي ديمقراطي تقدّمي». أما التيار الثالث، فذهب إلى أقصى يمين نظرية المؤامرة. فمرة يُقال إن الملياردير اليهودي جورج سورس دعم حملته ضمن خطة ماسونية لتمكين «اليسار العالمي»، ومرة أخرى يُعاب عليه دعم المثليين وقوانين الإجهاض، أو لقاء حاخامات نيويورك. ومع أن المدينة تضم أكبر تجمع لليهود في العالم بعد إسرائيل، فقد فاز ممداني المسلم الاشتراكي بمنصب عمدتها بدعم غير محدود من أصوات يهود نيويورك أنفسهم. وقد أشار أحد المعلقين في «الغارديان»، إلى أن»هذه القراءة التخوينية المستندة إلى نظريات المؤامرة، قراءة منقوصة ومجحفة بحق سياسي شاب يسعى لإعادة تعريف العدالة الاجتماعية في مدينته». أما المستشار الهولندي ألكسندر فِربِيك فقال إن أغلب سياساته، من تجميد الإيجارات إلى النقل العام المجاني، ليست أفكارا «راديكالية» كما يراها البعض، بل هي سياسات طبيعية في أوروبا، حيث «يتوقع الناس من الدولة أن تهتم بهم».

في المقابل، أثار فوزه موجة اهتمام غير مسبوقة بين الجاليات المسلمة في الولايات المتحدة. فقد اعتبره كثيرون رمزا لتجاوز عقدة أمريكا ما بعد 11 سبتمبر. تقول الباحثة الأمريكية سيلفيا تشان مالك، إن فوز ممداني «أطلق زفرة ارتياح جماعية بين مسلمي نيويورك، إذ أثبت أن الأكاذيب حول الإسلام لم تعد فعالة كما كانت». وعلّق البروفيسور يوسف شهود من جامعة كريستوفر نيوبورت قائلا: «إنه يرسل رسالة قوية بأن المسلمين لم يعودوا مجرد جزء من النسيج المدني الأمريكي، بل صاروا يساهمون في تشكيله».

غير أن ما لم يلتفت إليه كثيرون هو تأثير حرب غزة على المزاج العام في تلك الانتخابات، فممداني، المعروف بمواقفه الجريئة في دعم حقوق الفلسطينيين، لم يتردد في وصف ما يجري بأنه «إبادة». هذا الموقف، رغم الهجوم العنيف الذي تعرّض له من اللوبيات المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، منحه تعاطفا واسعا في أوساط الشباب والملونين والمهاجرين، الذين رأوا فيه صوتا أخلاقيا في زمن الصمت، وكما كتب أحد المعلقين العرب: «لولا غزة، ولولا إصرار ممداني على الظهور كمناهض للكيان، لما تحقق هذا الفارق الكبير في الأصوات».

إن التحدي الحقيقي أمام ممداني اليوم لا يكمن في الرد على هذه القراءات المتناقضة، بل في ترجمة وعوده إلى واقع ملموس، فمدينة مثل نيويورك، التي تضم أكثر من ثمانية ملايين نسمة، وتُعد القلب المالي للعالم، ليست ميدانا سهلا لتطبيق سياسات اشتراكية ديمقراطية. فبرنامجه الانتخابي ووعوده ذات السقف العالي، قد تصطدم بمصالح شركات العقار الكبرى، وبتعقيدات قانونية، كما حدث في برلين عندما ألغت المحكمة الدستورية قانون تجميد الإيجارات هناك. ومن المعلوم أن مثل هذه الخطط الجريئة، ستحتاج إلى تمويل ضخم وضبط دقيق للضرائب، لكن هذا التحدي هو ما يمنح فوزه قيمته، إذ يُدخل النقاش الاجتماعي والاقتصادي إلى قلب أمريكا، ويعيد تعريف وظيفة الدولة المحلية كضامن للعدالة، لا مجرد مدير للسوق.

لقد أثبت زهران ممداني أن السياسة يمكن أن تكون إنسانية من دون أن تفقد صرامتها، وأن الانتماء الديني أو العرقي لا يمنع من ممارسة الحداثة السياسية. وهو، بوعيه النقدي ورمزيته الثقافية، يعيد إلى الذاكرة العبارة المنسوبة إلى الإمام محمد عبده: «ذهبت إلى الغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وعدت إلى الشرق فوجدت مسلمين ولم أجد إسلاما». وربما لا نبالغ إذا قلنا إن ممداني، بما يمثله من تلاقي بين العقلانية والعدالة، يجسّد في الغرب ما فشل الشرق في تحقيقه منذ زمن طويل: دولة ترعى مواطنيها لا أديانهم، وعدالة لا تعرف تمييزا في الأصل أو اللون أو العقيدة. يبقى السؤال: هل يستطيع الشاب البالغ من العمر أربعة وثلاثين عاما أن يحقق ما عجز عنه أسلافه؟ الجواب ليس في شعارات أنصاره ولا في تخويف خصومه، بل في قدرته على الصمود أمام مصالح الشركات العملاقة، وقيادة «جيشه الشعبي» من المتطوعين، الذين صنعوا فوزه نحو مرحلة جديدة من الحكم التشاركي. فكما قال هو ليلة انتصاره: «هذه ليست نهاية الطريق، بل بدايته. علينا أن نثبت أن مدينة مثل نيويورك يمكن أن تكون عادلة، رحيمة، وقادرة على الحلم مجددا».

مقالات ذات صلة