مؤثرون بلا بوصلة

جهاد المنسي

حرير- خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في العقد الأخير، تحوّل الفضاء الإلكتروني لساحة مفتوحة لكل من يملك هاتفاً ذكياً، يضاف اليها شيئاً من الجرأة أو الخفة أو حتى الاستعراض، فبتنا نرى ونسمع يوميا أصواتا تدعي التحليل وامتلاك المعلومة.

خلال تلك الفترة بتنا نعيش في زمن ما يطلق عليه جزافا (المؤثرين)، لكن المفارقة أن كثيراً من هؤلاء – لا نقول كلهم- لا يمتلكون الحد الأدنى من الثقافة أو الفهم السياسي أو حتى الحس الوطني الذي يؤهلهم للحديث في الشأن العام او حتى الشأن الثقافي او الاجتماعي او الرياضي.

الأنكى، والأكثر غرابة أن أولئك يتحدثون بثقة مدهشة، يوزعون الاتهامات، يطلقون الأحكام، ويخوضون في قضايا معقدة بلغة سطحية تجعل من النقاش العام مادة للتسلية، لا مساحة للفكر والحوار وتبادل وجهات النظر وطرح الحلول.

المفارقة أن بعضهم أصبح يُستضاف في البرامج ويُستشار في القضايا، وكأن عدد المتابعين شهادة كفاءة، أو كأن الشهرة دليل على الفهم، والمؤسف أن بعض المسؤولين وجدوا في هؤلاء أداة سهلة لترويج مواقفهم، فصاروا يستعينون بمن يجيد فن “الترند” بدل من يجيد فن الفهم، والنتيجة أننا أمام مشهد عام، يعلو فيه الصوت السطحي ويغيب فيه العقل الثقيل.

قبل أن نرمى بحجر التجني على الجميع فإنه وجب القول والتأكيد أن بعض المؤثرين قدّموا محتوى راقياً ومفيداً، ونجحوا في تبسيط مفاهيم اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية بلغة قريبة من الناس، وهؤلاء قلة يُحترمون ويُقدّر دورهم، لكنهم للأسف يضيعون وسط ضجيج الأغلبية التي لا تملك سوى (رغبة في الظهور) بأي ثمن، ودون محتوى حقيقي جاد.

بالمقابل، فإن ما يفعله كثيرون ممن يسمّون أنفسهم مؤثرين هو تسطيح الوعي العام وتشويه المفاهيم الوطنية، من خلال نقل الإشاعات، أو نشر تحليلات سطحية تتجاوز حدود الفهم والمعرفة، والنتيجة أن الرأي العام أصبح أسير موجات من الانفعال والمبالغة، تغذيها حسابات تبحث عن التفاعل والانتشار، لا عن الحقيقة أو المصلحة العامة، فهل يجوز ترك الساحة لهذا العبث دون ضوابط؟ وهل يُعقل أن يصبح صاحب “الملايين من المتابعين” أهم من صاحب الخبرة أو الفهم أو حتى المسؤولية؟

واجب الدولة احترام حرية التعبير وصونها وتوسّعها، ومنح الحق في الاختلاف وتبادل وجهات النظر والأفكار وطرحها للنقاش العام المسؤول، لكن الحرية لا تعني الفوضى، ولا يمكن أن تكون مظلة لمن يعبث بعقول الناس، وهنا من واجبنا القول ان الحكومات عليها التعامل مع ما يجري على قاعدة احترام الاختلاف ولكن دون منح المجال لمن لا يعرف بالتأثير على عقول الناس، وأيضا دون ان تتكئ الحكومات على أولئك لعرقلة حرية الاختلاف، وان حصل أي تدخل من قبل الحكومة فإن ذاك يجب ان يكون للحد من تمدد أولئك المتطفلين وليس تقييد الجميع وقمعهم، ولكن للحد من انتشار الإساءة والتظليل، فترك المجال مفتوحاً أمام من لا يملك وعياً سياسياً ولا خلفية فكرية يعني تسليم أدوات تشكيل الرأي العام إلى أشخاص يجهلون خطورة ما يقولون.

هنا، تبدو حاجة ملحة لتدخل الدولة بأدواتها القانونية والإعلامية لضبط هذا الفضاء، من خلال تشريعات ذكية تراعي الحرية، لكنها في الوقت نفسه تمنع الفوضى وتُلزم من يملك منبراً عاماً بالحد الأدنى من المسؤولية والاحترام للعقل الجمعي، ومع ذلك، لا يمكن القبول بأن يُستخدم هذا الانفلات ذريعة لتقييد الحريات أو التضييق على النقد، فحرية التعبير حق لا يجوز المساس به، لكنها أيضاً مسؤولية، والمطلوب أن نحمي الحق في التعبير، لكن بوعي وضبط، فالفوضى ليست حرية، كما أن الصمت ليس وعياً.

مقالات ذات صلة