
مبعوث قيصر إلى أرض الفساد
سنان أنطون
حرير- حين أعلن ترامب قبل سنوات عزمه على اقتحام المسرح السياسي في الولايات المتحدة، ليتنافس على تمثيل الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة، قوبل إعلانه بالسخرية والاستهزاء، حتى عدّ أحد الكوميديين الأمر نكتة، لأن ترامب كان قد فشل فشلاً ذريعاً قبلها عدة مرات وحصل على نسبة ضئيلة. كما لم تكن لديه خبرة أو تجربة في شغل أي منصب سياسي، جلّ رصيده كان شهرة حصدها من برنامج تلفزيوني شهير يحكم فيه على قدرات المتنافسين ويقرر ترشحهم للمرحلة التالية، أو فصلهم، وشهرة إضافية من تصريحات وقحة وعنصرية، ونظريات مؤامرة على مرّ السنين.
والمضحك المبكي أن ترامب، بالمقاييس كافة، رجل أعمال فاشل، تطول قائمة إخفاقاته ومشاريعه الفاشلة، وكان قد أفلس ست مرات لأنه تخلف عن سداد الديون الباهظة، لكنه كان بارعاً في التحايل على القانون، وفي البلطجة، ومتمرساً في حيل الفساد. ونجح أخيراً خطابه الشعبوي العنصري في اجتذاب شرائح واسعة من الناخبين الناقمين والمهمّشين، كما نجح ما أصبح «جناحه» داخل الحزب الجمهوري في اكتساح الحزب وجمهوره، وإخضاع الغالبية العظمى من سياسييه لإرادته ونزعاته.
لا يخلو تاريخ الولايات المتحدة السياسي من شخصيات غريبة، ومن سياسيين يخرجون على الأعراف والتقاليد بين حين وآخر، لكن ترامب، كما بات واضحاً، بز الجميع. لا فرق كبيراً بين أسلوبه ومعجمه (الضئيل) وسلوكه، وأساليب زعماء المافيا، الذين لا بد أنه عرفهم عن كثب، لا من الأفلام والمسلسلات فحسب، بل من خلال تعامله معهم بحكم مشاريعه في الكازينوهات والفنادق والعقارات في ولايتي نيوجرسي ونيويورك. ولعل آخر مثال صارخ على تعامله المافيوي مع رئيس دولة، الذي شاهده العالم هو ما دار في اجتماعه بالرئيس الأوكراني زيلينسكي في البيت الأبيض، حين أهان ترامب، ونائبه، زيلينسكي وهدّداه وعنفاه، بالإضافة إلى المافيوية في التعامل الشخصي، فإن نزعات ترامب الاستبدادية، وإصداره الأوامر للحرس الوطني بالانتشار في عدد من المدن التي يحكمها الديمقراطيون، وتسخير القضاء للانتقام من أعدائه، وتلويحه بالبقاء في الرئاسة حتى بعد انتهاء ولايته، ساهمت مجتمعة في تصاعد الرفض لدى شرائح واسعة، وحتى بين صفوف من كانوا من أشد مؤيديه. خرجت الأسبوع الماضي مظاهرات حاشدة شارك فيها أكثر من سبعة ملايين مواطن في عموم البلاد نظمتها أكثر من مئتي مجموعة ومنظمة، وكان شعارها الرئيسي «لا ملوك». ورد ترامب بكل صفاقة على المظاهرات بنشر مشهد مصنوع بالذكاء الاصطناعي يظهر فيه على رأسه تاج وهو يقود طائرة مقاتلة كُتِبَ عليها «ترامب الملك» تسقط البراز على المتظاهرين.
كما أصدر ترامب مؤخراً أوامره بإضافة قاعة احتفالات ضخمة إلى البيت الأبيض (ستكون أفضل قاعة احتفالات في العالم كله، كما قال!) وعلى الرغم من الوعود بأن هذا التغيير لن يتطلب تهديم أي جزء من البيت الأبيض، ولن يكلف الحكومة مبالغ باهظة، إلا أن الصور تظهر تهديم الجناح الشرقي بأكمله، ويبدو أن التكاليف ستتجاوز 300 مليون دولار، لكن شريط الأخبار أمامي الآن يقول إن كبرى الشركات (آپل وآمازون ومايكروسوفت، وپالانتير، وغوغل وميتا وغيرها) ستتكفل بالفاتورة. وهذا أول تغيير جذري في البيت الأبيض منذ عهد جيمي كارتر حين وُضِعت ألواح خلايا شمسية على سطوح البيت الأبيض في عام 1979 في مبادرة مبكرة، وإشارة إلى ضرورة الاعتماد على الطاقة المستدامة، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. لكن الألواح أزيلت في عهد خلفه رونالد ريغان، عام 1986.
هذا أول تغيير يجري في بناية البيت الأبيض، من دون اتباع الخطوات التقليدية، وبلا تخطيط مسبق، ومن دون عرض المشروع على الملأ واستشارة الخبراء. لعل حدود المنصب وتقاليد الرئاسة وأعرافها لا تشبع نرجسية ترامب، الذي يرى نفسه في مرايا الوهم وجنون العظمة، القيصر. وكان مشهد المراسم والطقوس وطريقة «إخراجها» في مؤتمر شرم الشيخ لافتاً في هذا السياق ومهيناً. ومما يثير العجب والسخرية، والغضب، أحياناً، الأشخاص الذين يختارهم ترامب لشغل مناصب مهمة. ففي معظم الحالات، ليست الخبرة ولا المؤهلات أو الإنجازات من بين المعايير، التي تحدد من هو الشخص المناسب، بل يأتي الولاء للقيصر في المقام الأول، ومن ثم جني الأرباح لشركاته من مشاريع مستقبلية، ولعل آخر مثال هو مبعوث ترامب إلى العراق مارك سافايا، وهو أمريكي من أصل عراقي كلداني، يملك ثلاثة محلات لبيع القنّب في ولاية ميشيغان. وصف أحد «المحللين» العراقيين سافايا بأنه «عقلية تجارية بارزة» في الولايات المتحدة، لا يعرف الأخ المحلل أن عدد محلات بيع القنب في الولايات المتحدة يتجاوز 15 ألفاً. ولا يتطلب فتح محلات كهذه سوى رأس مال واستحصال رخصة. وتشير التقارير إلى أن اثنين من محلات سافايا أغلقت مؤخراً. أما أهم إنجازات المبعوث فهو التبرع لحملة ترامب الرئاسية بالأموال، وحشد الأصوات، والتقاط الصور مع ترامب وحاشيته، والمساعدة في إطلاق سراح إليزابيث تسوركوف الروسية الإسرائيلية، التي كانت كتائب حزب الله قد احتجزتها في العراق وقد شكرته ‘تسوركوف على منصة إكس. لكن القيصر يرى ما لا تراه العين المجردة فقد غرّد عن مبعوثه قائلاً «إن فهمه العميق لعلاقات الولايات المتحدة مع العراق وصلاته في المنطقة ستساعد في خدمة مصالح الشعب الأمريكي».
فلنتذكر ما قاله ترامب عن العراق في شرم الشيخ: «العراق، بلد يمتلك الكثير من النفط، لديهم كميات هائلة لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون به. وهذا بحد ذاته مشكلة كبيرة، عندما تملك الكثير ولا تعرف كيف تتصرف به». لكن ترامب ظلم النخبة الحاكمة في العراق بما قاله فـ«هم» يعرفون تمام المعرفة ما يفعلون بعوائد النفط وكيف يتصرفون، وقد تراكمت معرفتهم منذ 2003 وراكمت معها المليارات في حساباتهم المصرفية وعقاراتهم وأملاكهم في أرض الفساد وخارجها. وقيصر الفساد يريد حصته.



