
ترامب في بيت الطاعة الروسي
عبد الحليم قنديل
حرير- يطلق أكاذيبه ويبتلعها في نفس واحد، إنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لا يغلق فمه أبدا، وربما يرغب في جلب الميكروفونات والصحافيين معه إلى غرفة النوم، ففي سبتمبر 2025، وعلى هامش الانعقاد السنوي رفيع المستوى للجمعية العامة للأمم التحدة، التقى ترامب مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، وخرج بعدها إلى لقاء مع الصحافيين، قال فيه نصا، إن أوكرانيا قد تتمكن من استعادة جميع أراضيها التي خسرتها لصالح روسيا، بعدها بأسابيع قليلة، كان ترامب يلتقى في البيت الأبيض مع رئيس وزراء أستراليا، وخرج بعد اللقاء ليخاطب الصحافيين نفسهم، وقال ببساطة لم أقل قط إنهم ـ أي الأوكران ـ سينتصرون، قلت إنهم قادرون على الفوز! ومن دون أن يعرف أحد الفارق بين كلمتي الانتصار والفوز في رأس الرجل البرتقالي، لكنه عاد بسرعة ليريح رأسه ورؤوس متابعيه، وقال بعفوية متناقضة، إنه لا يزال يعتقد أن أوكرانيا قادرة على الفوز.
لكنه لا يعتقد ذلك، ولا تتعب نفسك فتسأل عن حقيقة اعتقاد الرجل، الذي يقود أقوى دولة في العالم، وتقدم له كل صباح تقارير أجهزة المخابرات الأمريكية، رغم ذلك لا يكف عن الاعتقاد في الشيء وعكسه بالضبط وفي الجملة ذاتها. وكان ترامب قد عاد إلى لقاء زيلينسكي مؤخرا، وسبقت اللقاء مكالمة هاتفية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع ترامب، حذّر فيها بوتين من مخاطرة إرسال صواريخ كروز توماهوك إلى أوكرانيا، ومن تأثيرها الفادح على علاقات موسكو وواشنطن، وهو ما استجاب له الرئيس الأمريكي على الفور، وسحب عرض الصواريخ، وألقت مكالمة بوتين ظلالها على اجتماع ترامب مع زيلينسكي، الذي تحول ـ بتعبير «فايننشيال تايمز» البريطانية ـ إلى مباراة صراخ، تذكر بصخب ترامب وإهاناته للرئيس الأوكراني أواخر فبراير 2025، فقد عاد الرئيس الأمريكي إلى شتائمه القاسية لضيفه، وأصر على أن يسلم زيلينسكي منطقة دونباس الأوكرانية بأكملها ـ أي مقاطعتي لوغانسيك ودونيتسك ـ إلى روسيا، وكرر على مسامع زيلينسكي النقاط التي طرحها بوتين في مكالمتهما الهاتفية عشية اللقاء، وأشار إلى تهديد بوتين بتدمير أوكرانيا، إذا لم توافق على التنازلات المطلوبة.
وبدت القصة أكبر من ميل ترامب الفطري إلى الكذب بانتظام وتلقائية، واعتياده على تكرار المتناقضات بلا خجل ولا تذكّر، حتى إنه أخبر الرئيس الأوكراني، أن بوتين ذكر له أن الصراع الجاري عملية عسكرية خاصة، وليست حربا (في نظر الروس)، وأن على زيلينسكي إبرام صفقة بشروط روسيا، وإلا سيواجه الدمار، ولا تسأل هنا ـ طبعا ـ عن اعتقاد ترامب السابق الهزلي بإمكانية فوز أوكرانيا، فقد نفاه هو بنفسه، تماما كما عاد إلى الخلط والاضطراب بعد خروج الرئيس الأوكراني من لقاء ترامب حزينا، وعودته إلى سلوك الشكوى للحلفاء الأوروبيين، الذين خاطبوا ترامب، ودعوه إلى تبني فكرتهم عن الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وتجميد القتال عند الخطوط الحالية، وهو ما دعا إليه ترامب فعلا، وكرر ما قيل له، وكأنه جهاز تسجيل خرب يردد آخر ما يقال له، ويمسح ما جرى تسجيله سابقا، فترامب ـ يردد دوما آخر ما يقال له، وينسى ما قاله بلسانه في السابق، وبالذات عقب قمة ألاسكا التي جمعته مع الرئيس الروسي في 12 أغسطس 2025، والتي خرج منها مقتنعا بأقوال بوتين، ورفضه البدء بوقف إطلاق النار، وضرورة البدء باتفاق تسوية شاملة، وهو ما ظل بوتين ثابتا عليه دونما تغيير ولا تبديل، واقترح عقد لقاء قمة جديد مع ترامب في بودابست عاصمة المجر الصديقة لروسيا، وبعد أن وافق ترامب بحماس، وبدأ التنسيق لعقد القمة بمكالمات وزيري الخارجية الأمريكي ماركو روبيو والروسي سيرجي لافروف، عاد ترامب إلى عاداته المضطربة، وجرى تأجيل قمة المجر حتى إشعار لاحق، وربما نقلها إلى عاصمة أخرى.
ولا يبدو بوتين قلقا من تأجيل القمة التي كانت منتظرة، بل ربما كان يرغب في التأجيل لمنح حملته العسكرية الخاصة وقتا إضافيا، تؤجل معه القمة ربما كما قيل إلى أواخر نوفمبر 2025، وقد نجح بوتين في التلاعب بمشاعر وقرارات ترامب، ودفعه للتراجع عن نية إرسال صواريخ توماهوك، التي بالغ الروس عمدا في خطورتها، وهي صواريخ بعيدة المدى من طراز متقادم يعود إلى ثمانينيات القرن العشرين، ولدى الروس إمكانيات كبيرة لتحييد خطرها من صواريخ إس ـ 300 إلى منظومات إس ـ 400 وإس ـ 500 الأحدث، وكان هدف بوتين من تضخيم خطر توماهوك ظاهرا، فهو يريد كبح تهديدات ترامب بزيادة الدعم العسكري، وبفرض عقوبات جديدة على شركاء روسيا التجاريين في الصين والهند بالذات، وقد نجحت مناورة بوتين إلى حين، خصوصا أن ترامب يستعد للقاء قمة قريب مع الرئيس الصيني شي جين بينج، ويرغب في إقناع الصين بشراء كميات أكبر من محصول فول الصويا الأمريكي، وتهدئه حمى الحروب التجارية المشتعلة بين بكين وواشنطن، وهنا بحث ترامب عن مخرج لتجميد وإلغاء صفقة صواريخ توماهوك، وأعلن بنفسه أن المخزون الأمريكي من توماهوك محدود، وأن واشنطن تحتاجه لجيشها، لا للذهاب به إلى ميدان حرب أوكرانيا، وهكذا نجحت مناورة بوتين بمجرد مكالمة هاتفية ذكية، طمست مخاطر وأغوت بفرص.
وهنا تبدو براعة بوتين التكتيكية، ونجاحه المذهل المتكرر في احتواء ترامب، الذي لا يفتأ يتبرم كثيرا من ألاعيب بوتين، لكنه يعود للخضوع والتسليم بوجهة نظره، فالرئيس الأمريكي شديد الإعجاب بالرئيس الروسي، ولأسباب خفية وظاهرة، بينها مقدرة بوتين المتفوقة على مخاطبة ميول ترامب رجل الصفقات، ورغبته في وقف حرب أوكرانيا بأي ثمن، فيما لا يبدو بوتين في عجلة من أمر الحرب المتصلة إلى أبواب عامها الرابع، وتمضي بنفس هادئ من قبل القوات الروسية، التي حدد لها بوتين أهدافها من بداية الحملة في 24 فبراير 2022، وهي ضم المقاطعات الأوكرانية الأربع (لوغانسيك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون)، إضافة لشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إليها عام 2014، ومن دون اضطرار موسكو إلى إعلان الطوارئ والتعبئة العامة والحرب الشاملة، وإلى اليوم، تبدو الصورة كما يلي، سيطرت القوات الروسية الخاصة والرديفة على مقاطعة لوغانسيك على نحو شبه كامل بنسبة 99%، وسيطرت على مقاطعة دونيتسك بنسبة 76%، وعلى مقاطعتى زاباروجيا وخيرسون بنسبة 73%، وعلى مساحات كبيرة من مقاطعات سومي وخاركيف ودنيبرو بتروفسيك، ربما للمساومة بها وعليها في ما بعد، وربما تعول روسيا على أوحال الشتاء المقبل للتوسع في المهمة، فقد كان الروس ولا يزالون ملوكا لحروب الشتاء.
وفى المعنى الأوسع لحرب أوكرانيا الجارية، بدا أن روسيا التي تحارب وحدها حلفا غربيا مكونا من 54 دولة، بدا أن روسيا نجحت في تحقيق الفوز العسكري، واستفادت من أجواء الحرب لتطوير اقتصاد مختلف ينمو بمعدلات مميزة، وبناء تحالف الشرق الجديد في مواجهة حلف الغرب المتقادم المصاب بالشروخ، خصوصا مع نزعة ترامب المتعالية على الحلفاء الأوروبيين في حلف الناتو، وتركيزه على إرهاق أوروبا ماليا، وجلب المليارات منها مقابل تقديم سلاح أمريكي غير قادر على تغيير معادلات الحرب، ولا على التعجيل بدفع واشنطن إلى صدام مباشر مع روسيا، قد يهدد بتفجير حرب نووية تدمر العالم كله، وفي ما تبدو أوروبا في بؤرة الخطر العسكري لروسيا، التي تشكل أراضيها الأوروبية ـ غرب جبال الأورال ـ 40% من مساحة أوروبا كلها، وتنتج سنويا أربعة أمثال الأسلحة التي ينتجها الغرب الأوروبي والأمريكي كله، وهو ما يفسر رغبة ترامب في الانسحاب من الصراع الحربي الجارى تجنبا لنزيف الخسائر في السمعة الدولية، والتسليم لروسيا بشروطها، ومنع انضمام ما يتبقى من أوكرانيا إلى حلف الناتو، وترك الخيار لأوروبا في الاستنزاف، ودفع مئات مليارات الدولارات، ومن دون التجاوب الفعلي مع رغبات أوروبا في تقديم ما تسميه ضمانات أمنية إلى أوكرانيا، بعد وقف الحرب، ونشر قوات غربية ترفض روسيا وجودها على نحو قطعي، ولا تريد إدارة ترامب التورط في تكاليفها ومخاطرها.
وباختصار، تبدو الحرب الأوكرانية ماضية إلى منحدر شهورها الأخيرة، وربما تنتهي في ربيع عام 2026 أو حتى قبله، وإن كان ترامب راغبا في استعجال النهاية، وبدوافع تصوير نفسه كصانع للسلام العالمي، بعد أن أدرك بيقين، أن روسيا تنتصر، ولم تتبق له سوى جولات الكلام المرتبك المتناقض، وتقديم فروض الطاعة للرئيس الروسي.



