
من الذي انتصر في حرب غزة؟
محمد عايش
حرير- ثمة جدل واسع في أوساط الكثيرين، سواء الفلسطينيين أو غيرهم، حول من هو المهزوم ومن المنتصر في حرب غزة، وهو الجدل ذاته الذي أثير في أعقاب الهدنة السابقة، التي استمرت شهرين، وظن الناس حينها أن الحرب قد انتهت وبدأوا يتفقدون آثارها، ويقيمون نتائجها، وخلصوا إلى خلاف كبير حول من الذي انتصر ومن الذي انهزم.
حقيقةُ الأمر أن هذا السؤال نفسُه فاسدٌ وغيرُ صحيح؛ فالسؤال ذاته لا يستوي ولا يستقيم، وهذا هو السر وراء الخلاف الناتج عنه، فالحديث عن النصر والهزيمة هو حديث استراتيجي، وهذا لا يصح عندما يتم إسقاطه على حدث مرحلي، أي أن حرب غزة ليست سوى جزء من صراع طويل بين قوة احتلال وشعب أعزل، وهذا الصراع لم يُحسم بعد، وعندما يُحسم يُمكن السؤال عن نتيجته، وعندها فقط يُمكن السؤال: من الذي انتصر في هذا الصراع، أما الحرب الاسرائيلية على غزة فحالها مثل حال عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ إذ كلاهما ليس سوى مرحلة من هذا الصراع، أو جزء يسيرٍ فقط منه، وفي كليهما لا يوجد أي منتصر ولا أي مهزوم، وإنما هما تعبير عن استمرار لهذا الصراع المستمر منذ عدة عقود.
حربُ غزة لا يُمكن اجتزاؤها وحدها، وإصدارُ حكمٍ عليها، وكذلك الحال بالنسبة لعملية السابع من أكتوبر، التي لا يُمكن الحكمُ عليها وحدها باجتزائها من سياقها وظروفها ومقدماتها، والعقود التي سبقتها من الصراع مع الاحتلال.
كل ما شهدناه طوال العامين الماضيين كان مجرد مرحلة، أو حلقة، في صراع طويل مستمر منذ عقود، وهو صراعٌ بين الاحتلال الأجنبي والأمة العربية، وفي واجهتها الشعبُ الفلسطيني، مع ضرورة التأكيد على أن الأمة بأكملها في هذا الصراع، حتى إن حاولت بعض أنظمتها الخروج منه، أو الحياد عبر اتفاقات التسوية أو التطبيع. وعلى الرغم من حقيقة أن الحكم على أي مرحلة بشكل منفرد، لا يُمكن أن يكون صحيحاً، ولا يُمكن أن تُقاس نتائج الصراعات باجتزاء بعضٍ منها، إلا أننا في حسابات الربح والخسارة، أو النصر والهزيمة، يتوجب أن نضع في اعتبارنا الحقائق التالية:
أولاً: العمل النضالي تراكمي ولا يُمكن الحكم عليه بالقطعة، كما لا يُمكن اجتزاؤه من سياقه وظروفه ومقدماته، إذ على سبيل المثال: انسحاب فرنسا من الجزائر، كان ناتجاً عن كل العمل النضالي الذي بدأ في عام 1954 واستمر حتى 1962 ولم يكن من الممكن السؤال حينها بعد كل عمل نضالي: ماذا استفاد الجزائريون؟ وهل ربحوا به أم خسروا؟ وكذا الحال بالنسبة للثورة الفرنسية، التي استمرت عشر سنوات قدم خلالها الفرنسيون آلاف الشهداء في سبيل الحرية.. وكذلك الحال في ليبيا وفيتنام وأفغانستان وغيرها من الأمثلة.
ثانياً: نتائج الحروب لا تُقاس بأعداد الضحايا، فحروب التحرر ليست مباريات كرة قدم، يتم فيها إحصاء الأهداف، ومن يُحقق أهدافاً أكثر يكون هو الفائز. هذا تبسيط مبالغ به عند دراسة الحروب ونتائجها، فعلى الرغم من أهمية الضحايا وأعدادهم، لكنهم ليسوا عنوان النصر والهزيمة، بل إن التجارب التاريخية تؤكد أن الشعوب التي تكبدت الخسائر البشرية الأكبر هي التي انتصرت على أعدائها، وأوضح الأمثلة على ذلك الحرب العالمية الثانية، التي خسر فيها المنتصر (الحلفاء) 61 مليوناً من البشر بينما خسر المهزوم (المحور) 12 مليون إنسان فقط، أي أن المنتصرين دفعوا ثمناً بشرياً في هذه الحرب يزيد عن ثلاثة أضعاف ما دفعه الخاسر.. والحال نفسه طبعاً في الحرب العالمية الأولى، وفي أغلب الصراعات العسكرية الكبرى.. وهذا يعني أن النصر حليفُ من لديه استعداد لأن يدفع الثمن.
ثالثاً: سؤال النصر والهزيمة عادة لا يكون منطقياً إلا عندما يكون المتحاربون أقرانا متكافئين، أما عندما يكون الحديث عن عدوان يشنه جيشٌ منظم ضد شعبٍ أعزل يواجه حرب إبادة، فهنا يظلُ الشعبُ منتصراً ما دام فيه ولو شخصٌ واحد على قيد الحياة، وهنا نقول إن الجيش المنظم، قد خسر المعركة ما دام لم ينجح في تحقيق أي من أهدافه.. وهذا ما حصل ويحصل على أرض فلسطين، وهذا ما ينسحب على كل مراحل المواجهة بين الاحتلال والفلسطينيين.
والخلاصة هي، أن من يقيس نتائج الحرب بأعداد الضحايا والمصابين فإنما يقوم بتبسيط وتسطيح صراع استراتيجي كبير يتجاوز عمره السبعة عقود، وسوف ينتهي إلى نتائج غير صحيحة.