
أبعد من كسر تماثيل
حسان الأسود
حرير- قبل أيام، تناقلت بعض وسائل التواصل الاجتماعي خبر تحطيم تماثيل في إحدى ساحات كلية الفنون الجميلة في حلب. وكالعادة، تشتت الناس بين من يزعم أنها سياسة ممنهجة لفرض لونٍ واحد على البلاد، يتوافق والرؤية الأيديولوجية الخاصة بهيئة تحرير الشام التي سيطرت على الحكم بعد سقوط نظام الأسد، ومُوضّحٍ أنّ المسألة لا تعدو أنها مجرّد إتلاف لنماذج تجريبية كان يعمل عليها طلّاب قسم النحت وطالباتها. في أزمنة التوتر والشدّة ترى الناسَ أميلَ إلى الطروحات المتشنّجة والحدّية، وهذا ما نعيشه في سورية منذ 14 عاماً، ويبدو أنّه لن يتوقف في المدى القريب ولا حتى المتوسط. لم تهدأ حالة الاستقطاب بين السوريين والسوريات مع سقوط نظام الأسد، بل ازدادت حدّتها وارتفعت وتيرتها، والأسباب متعدّدة بكل تأكيد، ولا يمكن حصرها بجهة واحدة. من ناحية، ثمّة السلوك الإقصائي للسلطة السياسية، ومن ناحية ثانية، نجد المجموعات الرافضة أي تقارب معها كما في السويداء، أو لمجموعات تضع شروطًا صعبة أمام الاندماج في البنية الجديدة للدولة مثل الإدارة الذاتية.
تعدّد السرديات في المجتمعات المستقرّة شيء صحّي عادة، لأنّه ينتج عن اختلاف رؤى أصحابها وتباين مصالحهم، لكنّ هذه السرديات لا تصل إلى حدود خطيرة في تلك الحالات، والسبب وجود وسائل وقنوات للحوار، وآليات للتحقق من هذه السرديات، وجهات خارجها قادرة على وضع الأمور في نصابها وفق مبدأ سيادة القانون ومبادئ الديمقراطية ومن خلال مؤسسات الدولة الحيادية تجاه السرديات المختلفة. أما في المجتمعات القلقة والخارجة من الصراعات أو التي ما زالت ضمنها، أو على الأقل ضمن نطاق آثارها المباشرة، لا يمكن التحكّم في منتوجات هذه السرديات ولا في مُخرجاتها، فأدوات الحوار غير موجودة، وآليات الضبط منعدمة، وعناصر التحيّز أكبر من أسس الحياد والاستقلال، ولا وجود لمؤسّسات حيادية مستقلّة تضبط هذه الأجواء تحت ظل القانون. هكذا تصبح الروايات حقائق غير قابلة للنقاش عند كل طرف، لا بل تحُمّل أكثر مما تحتمل بعد استرجاع المرويّات السابقة وتحميلها الحمولات الأيديولوجية المنحازة إلى السردية المعنية. هنا يصبح كل حدث مهما كان عابراً قضيّة إشكالية تؤيّد وجهة نظر الفرقاء المختلفين فيما بينهم.
الحالة السورية مثالٌ واضح للاستقطاب بين مؤيدين بشدّة للسلطة الراهنة ومعارضين لها من الدرجة نفسها وبالاتجاه المعاكس. بين هذين الطرفين طرف ثالث هو السواد الأعظم الذي لم يشترك في الصراع أساساً، لكنّه كان حطب نيرانه ووقوده الدائم. هؤلاء الذين أضنتهم الحرب، وأودى الحصار بأحلامهم وبمصائرهم وبمستقبل أولادهم، لا ينتظرون من السلطة أكثر من الأمان وتأمين أساسيات العيش. هم في الأصل لم يخرجوا على الحاكم السابق، لأنّهم كانوا أقلّ شجاعة لأن يتخذوا هذا القرار العظيم، أو ربّما أكثر حكمة لمعرفتهم أو لحدسهم بالمصير المحتوم والنتائج المتوقعة. ولأنهم كذلك، لم يطلبوا منه أكثر من الأمان والأساسيات التي كان يوفرها لهم. لم تكن قضايا السياسة تخصّهم، ولا حتى عندما تؤثر على حياتهم المباشرة، وقد وجدوا أنفسهم في دائرة الصراع رغم حتفهم، وما كان لهم أن يتجنّبوا نتائجه بموقفهم الرمادي هذا. هذه الفئة من الجمهور لا يهمها إذا ما جرى تحطيم تماثيل في كلية الفنون الجميلة في حلب أم لا، وهي قد لا تسمع بهذا الخبر، وإن سمعته فلن تتوقف عنده أساساً. هؤلاء سواد الشعب الباحث عن لقمة العيش وأوليات الحياة، وإن أتت غير مغمّسة بالذل فأنعم وأكرم.
عندما يجد الناس أنّ الأثمان الباهظة التي دفعوها جرّاء اختياراتهم الحرّة، كما فعل الثوار، أو التي أجبروا على دفعها رغماً عنهم، كما هي حال الغالبية منهم، لا تتوافق والمثال المنشود، سيصابون بالإحباط والاكتئاب. سيدفعهم هذا إلى حافَة الدائرة حيث يكون التطرّف في أعلى مناسيبه، وستعود الصراعات صفرية لتلقي باللوم على الطرف الآخر. ما ينقص الناس في أوقات الأزمات الفسحة الزمنية الكافية لنقد الذات. ولكن كيف لمن لا يجد في بيته قوت يومه أن يجد الوقت لهذا الترف؟ اعتبارات تلبية الحاجات الأساسية التي تطغى على تفكير الناس، تحوّلهم، في أحيانٍ كثيرة، إلى أفراد متذرّرين غير فاعلين في ساحتهم الاجتماعية. يحلّ الخلاص الفردي محل شعور التضامن الجماعي بعد مدّة بسيطة من الأزمة، فالعواطف والمشاعر الجياشة تتلاشى مع الزمن، وهبّة الحماسة تتناقص كلّما تمادت القسوة والفاقة. ما الذي سيجعل فرحة النصر على نظام الطاغية شيئًا متقدًا ودائمًا؟ لا شيء أكثر من رؤية الناسِ تحسُّنَ أوضاعهم المعيشية واستقرارَ الأمن وإعادةَ الكرامة المهدورة.
إذا كان الحال الراهن لا يشير إلى تغييراتٍ جذريةٍ عمّا سبق وعايشه المجتمع في سنوات الصراع، فسيكون المستقبل قلقاً ومهزوزاً أيضاً. من هنا، تزداد الحاجة إلى الحوار الحقيقي، وهذا لا يكون فقط عبر وسائل التواصل، فـ”العين مغرفة الكلام” كما يقول المثل الدارج، وعندما يتقابل الناس في الساحات وفي الصالات وفي المراكز الثقافية وغيرها وجهاً لوجه، تفعل كيمياء المشاعر الإنسانية فِعلَها بينهم، فما يمكن أن نختلف عليه طويلاً في مراسلاتنا وكتاباتنا يمكن أن يحلّ بنقاش بسيط في مقهى الروضة أو في صالة المركز الثقافي أو على هامش ندوة الأربعاء الاقتصادي.
رغم كثير التجاوزات التي نسمع عنها في مناطق مختلفة من سورية، ليس في مناطق سيطرة الحكومة المركزية فحسب، بل في السويداء ومناطق سيطرة الإدارة الذاتية أيضاً، نسمع أيضاً عن نشاطاتٍ كثيرة غيرها يقوم بها مثقفون ومهتمون بالشأن العام. وجود منتديين في دمشق، واحد يمثل التيار الماركسي (منتدى سلامة كيلة)، وثانٍ يمثل التيار الليبرالي (منتدى رياض سيف)، ووجود منتدى ثالث في حلب يمثل التيار القومي (منتدى الكواكبي)، إشارات إلى واقع سياسي وثقافي مختلفٍ جذريّاً عمّا كان سائداً أيام النظام البائد، ومن شأن هذا أن ينتج واقعاً اجتماعيّاً مختلفاً أيضاً مع تراخي الزمن. المهم في ذلك كلّه استمرار الإضاءة على الجوانب المشرقة بالدرجة نفسها التي يتم فيها الإشارة إلى التجاوزات والأخطاء، فالحُسنُ يُظهرُ حُسنَهُ الضدُّ. يجب أن نخرج من عنق الزجاجة، وعلينا أن نتعلّم الحوار بعيداً عن الثنائيات القاطعة، فالموضوع باختصار ليس أسود وأبيض، بل هناك تدرّج واسع الطيف من الألوان، والناس ما بين هذا وذاك يعيشون ويحلمون. المسألة، إذن، مسألة مصالح تكتسي أثواباً مختلفة من السرديات المتناقضة، وما حصل في جامعة حلب، وما يحصل في غيرها من مناطق، أكبر من كسر تماثيل، إنّه إعادة بناء الدولة وتشكيلها، وإعادة كتابة العقد الاجتماعي، ولن ينجح طرفٌ واحدٌ في ذلك مهما بلغ شأوه، ولن تفلح سردية واحدة في أن تسود، لأنّ المحصلة الوطنية هي مجموع الروايات المختلفة والمصالح المتعدّدة.