«صفقة الألفية» بعد «صفقة القرن»

جلبير الأشقر

حرير- قبل أكثر من خمس سنوات، في يوم 28 يناير/ كانون الثاني من عام 2020، وفي حفل أقيم في البيت الأبيض بحضور بنيامين نتنياهو، قدّم دونالد ترامب مشروع التسوية الخاص بالشأن الفلسطيني الذي صاغه صهره جاريد كوشنير. كان ترامب قد وعد خلال حملته الانتخابية بإنجاز ما أسماه «صفقة القرن» بين العرب وإسرائيل، وهي تسمية ردّدها نتنياهو في تملّقه للرئيس الأمريكي خلال الحفل. يوم الإثنين الماضي، أدّى تعاظم نرجسية الرئيس الأمريكي وتعاظم نزعته إلى التبجّح إلى وصف إعلانه للخطة التي صاغها كوشنير ذاته، ومعه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، بأنه يُحتمَل أن يشكّل «أحد أكبر أيام الحضارة على الإطلاق»، إذ إن الخطة قادرة على حلّ «أمور مستمرة منذ مئات السنين، بل آلاف السنين».

أما الحقيقة فهي أن «صفقة الألفية» الأخيرة على غرار «صفقة القرن» السابقة لن تحلّ شيئاً، كما سبق وشرحنا في الأسبوع الماضي (أنظر «فلسطين: الاعتراف بالشعب قبل الدولة»، القدس العربي، 23/9/2025). ذلك أن بتأكيدها على ما يلي: «بينما تتقدّم إعادة إعمار غزة وعندما يُنجَز برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية بأمانة، قد تجتمع الشروط أخيراً لمسار ذي مصداقية يقود إلى تقرير المصير الفلسطيني والدولة الفلسطينية» (النقطة 19) إنما تعترف الخطة بأنها لا تستند بصيغتها الراهنة إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بل تجعل من احترام هذا الحق احتمالاً ليس إلّا («قد»). والحال أن نتنياهو أسرعَ إلى التأكيد في مقابلة لاحقة للإعلان على أنه لم يعترف بالحق المذكور وأن إسرائيل «سوف تقاومه بقوة».

هذا الأساس المغلوط يجعل خطة ترامب الجديدة أقل واقعية بعد من تلك التي أعلنها هو نفسه قبل خمس سنوات. فحيث نصّت «صفقة القرن» على إقامة «دولة فلسطين» في قسم من أراضي الضفة الغربية وكامل قطاع غزة، تنصّ الخطة الجديدة على فرض انتداب دولي على قطاع غزة، على غرار سلطات الانتداب الاستعمارية التي تلت الحرب العالمية الأولى، وبما يستوحي من الوصاية التي تم فرضها على مقاطعة كوسوفو في عام 1999. وهذه بالذات هي الخبرة التي من أجلها جرى إشراك بلير في مشروع إدارة القطاع تحت رئاسة ترامب، وقد كان له دورٌ رئيسيٌ في حرب كوسوفو والقرارات التي عقبتها.

وإذ تنص الخطة على انسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي من غزة كي تحلّ محله «قوة دولية لتحقيق الاستقرار» (تسمية مستمدة مما كان قائماً في البوسنة والهرسك) تقول إن الجيش الصهيوني «سوف يسلّم تدريجياً أراضي غزة التي يحتلّها إلى القوة الدولية لتحقيق الاستقرار وفقاً لاتفاق ستعقده مع السلطة الانتقالية حتى انسحابها الكامل من غزة، عدا حضور في محيط أمني سوف يبقى حتى تكون غزة على مأمن فعلي من إعادة ظهور أي تهديد إرهابي» (النقطة 16). بكلام آخر، فحتى لو سارت الأمور بما يتفق مع الخطة تماماً، سوف يبقى الجيش الصهيوني مهيمناً على المحيط الأمني الذي شقّه بعمق كيلومتر داخل غزة على مدى حدود القطاع مع الدولة الصهيونية، التي يبلغ طولها حوالي ستين كيلومتراً. وقد شرع الجيش الصهيوني بشقّ هذا «المحيط الأمني» منذ بداية غزوه، تحسباً للاحتفاظ به عند انسحابه من سائر أراضي القطاع.

في المحصّلة، فحتى لو قبلت «حماس» بخطة ترامب تحت ضغط الحكومات العربية والإسلامية التي أيّدت الخطة (قرار الحركة في هذا الشأن لم يتضّح بعد عند كتابة هذه السطور) ورأت «صفقة الألفية» بالتالي بداية تنفيذ، فإن الطريق أمامها وعرة وملغومة، بل ومسدودة تماماً بعد مطاف قصير بحيث تتوقف الخطة بدورها أمام حالة «أمر واقع» مستدامة، تتكرّس خلالها السيطرة الصهيونية على قسم كبير من القطاع. ولن تلبث إسرائيل أن تتذرّع بتجدد «التهديد الإرهابي»، أي بأبسط نشاطات المقاومة التي سوف تتواصل لا مُحال، كي تديم احتلالها لمعظم أراضي القطاع على غرار احتلالها لمعظم أراضي الضفة الغربية، وهو لا يزال «مؤقتاً» في التعريف الدولي منذ 58 عاماً.

مقالات ذات صلة