
معاقبة إسرائيل تبدأ بوقف التطبيع
لميس أندوني
حرير- رغم جبروتها ودعم واشنطن غير المحدود لها، لم تكن إسرائيل في عزلة كما هي حالياً، فقد خسرت أخلاقياً، ولم تعد مزاعم رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، عن اضطهاد اليهود التاريخي تجدي نفعاً. ما رأيناه من مقاطعة كلمته في الأمم المتحدة يمثّل لحظةً فارقةً، إذا أحسنّا استثمارها، ولن يتم ذلك إلا بوقف التطبيع، والتخلّي عن لغة السلطة الفلسطينية الاستجدائية وسعيها لإثبات حسن السلوك، وتوحيد الجهود نحو معاقبة إسرائيل.
كان نتنياهو واضحاً في كلامه: لا دولة فلسطينية ولو ممسوخةً وفاقدة السيادة، ولا فرق بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية ولا بين أيّ دولة عربية مطبّعة إلى درجة التحالف مع تل أييب وغير مطبّعة، بل يصرّ على أن يكون حاكم المنطقة، ونحن مجرّد مخلوقات موجودة بالمصادفة في منطقة نفوذه، حياتنا لا قيمة لها ولا معنى. غطرسة نتنياهو العنصرية الاستعمارية تحاول إخفاء صدمة انكشاف وعزلة عالمية لم تتوقّعها إسرائيل في تاريخها، فالمشهد في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك امتداد للمشاهد قي شوارع العالم وفي المياه التي تزيّنت بأساطيل الصمود المتّجهة صوب غزّة، إلى الجامعات والمدارس والنقابات. اخترق صوتُ فلسطين هوليوود وأصبح اسمها شعاراً يفتخر به النجوم وكأنّه قلادة على صدورهم.
طوفان صور الحرية لفلسطين كان موجوداً في الأمم المتحدة، وكانت قوة الخطابات في جزءٍ منها تأثراً عميقاً بفداحة جرائم حرب الإبادة الصهيونية في غزّة، واستجابةً لهدير أصوات إدانة إسرائيل والمطالبة بحرية فلسطين في الشوارع والمسارح والأفلام والبرلمانات التي صدحت بكل اللغات لتحرر فلسطين. لكن ما رأيناه في الأمم المتحدة كان قاصراً في مواجهة الجريمة أو في مواكبة موجة تحررية ترى فلسطين جزءاً من استعادة إنسانيتها. لا أتحدث عن كلمات شجاعة بالغة العمق، من يساريّي أميركا اللاتينية، بل إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يتأرجح بين النزعة الاستعمارية والرغبة في أن لا يحمل وزر التواطؤ مع جرائم إسرائيل، استنجد بكلمات محمود درويش، وكأنه يريد من الاقتباس من درويش أن يمنحه غفران دور فرنسا في دعم احتلال لم يرَ مشكلةً في إبادة أصحاب الأرض. لكن، من دون أن تتحرّك الدول العربية للمطالبة بمعاقبة إسرائيل، على أن يسبقها تجميد (إن لم يكن وقف) التطبيع مع من يهدّد وجودها ومستقبلها، سيبقى الأثر، وإن كان كبيراً، من دون حجم اللحظة، فسيبقى مجرّد عبارات جوفاء، ستسعى إسرائيل إلى تبديد آثارها.
صحيح أنّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية مشروط ومجزوء وفي تناقض سافر مع حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني، الذي هو حقّ غير قابل للتصرّف، ولا يمكن أن يكون مشروطاً، لكن حكام إسرائيل يرون في ذلك الاعتراف المشروط خطراً جسيماً على مخطّطهم، فهم يرون في أيّ كيان فلسطيني، ولو في شبر من أرض فلسطين، ويفتقد السيادة وشرط الاستدامة، تهديداً وجودياً لمشروع لن يتحقّق من دون إلغاء هُويَّة الأرض، وهوية الشعب الفلسطيني. فلم يعد هناك متّسع للتعايش بين هُويَّة المستعمر المفروضة وهُويَّة أصحاب الأرض الأصليين. لذا كان نتنياهو واضحاً في رفضه المطلق لإعلان الدولة الفلسطينية المجزوء، فالمشروع الصهيوني لا يتحمّل أيَّ كينونة فلسطينية كانت.
وعليه، يترتب تفكير مختلف؛ خطوات يجب أن تتبنّاها السلطة الفلسطينية أولاً. أقول ذلك بتردّد لأنه يبدو أن لا حياة لمن تنادي، وباستياء شديد، فكلمة رئيس السلطة الفلسطينية كانت عكس المطلوب، بل كانت كلمةً استجدائيةً تسعى إلى تقديم أوراق اعتماد جوهرها إثبات حسن السلوك، إذ يعتقد الرئيس الفلسطيني أن مثل هذه اللغة ضرورية لوقف الحرب ومدّ نفوذ السلطة في قطاع غزّة والضفة الغربية، فيما المطلوب وطنياً هو التمسّك بحقّ تقرير المصير للشعب الفلسطينيي، وليس قبول شروط “دولة” منزوعة السيادة، دولة وهمية لا حدود مُعرّفة لها، منقوصة الكرامة والحرية، فلا الخضوع ولا الإذعان سيحقّقان ولو دويلةً كرتونية في فلسطين.
كيف يقبل أي مسؤول على نفسه التعهّد بدولة منزوعة السلاح ويسمّيها “دولة”؟! هذه مفاهيم مشوّهة أصبحت بديلة من المفاهيم التحررية. فبدلاً من تحدّي لغة الاستعمار والعنصرية سعى عبّاس إلى إثبات حسن السلوك. فلو افترضنا أن سلوك السلطة في الضفة الغربية “حكيم”، وأن المصيبة تكمن في معاندة حكومة “حماس”، فكيف نفسّر تهديم المخيّمات وجرف البيوت، بل تقليص رقعة نفوذ السلطة نفسها في الضفة الغربية؟ فالمطلوب أولاً استبدال هذه اللغة المهينة بلغة حقوقية، فاللغة الحقوقية والدفاع عن الحقوق هي مقاومة في حدّ ذاتها. تغيير اللغة التي تمثّل نهجاً في التفكير شرط لا بدّ منه لتفعيل دور السلطة، لأنها الممثّل المُعترَف به في المحافل الدولية تحت مسمّى منظّمة التحرير الفلسطينية، للتحرّك لمعاقبة إسرائيل.
هذا ما تحاول القيام به مجموعة لاهاي، التي أخذت على نفسها متابعة القضية المرفوعة في محكمة العدل الدولية حول حرب الإبادة الصهيونية، لدعمها بخطوات لمعاقبة إسرائيل وحصارها في الأمم المتحدة والجهات القضائية الدولية. لكن السلطة بقيت غير فاعلة بانتظار قرار مشروع إعلان الدولة، وكأنّ ذلك كافٍ لردع إسرائيل. فبدا كأنّ كولومبيا، وهي الدولة المضيفة لمقرّ مجموعة لاهاي، هي المسؤولة الوحيدة عوضاً عن السلطة الفلسطينية في تحويل مكتسبات المحكمة الدولية خطواتٍ ملموسةً. تتصرف جمهورية كولومبيا بمسؤولية أكثر من السلطة الفلسطينية، لكنّها رسمياً لا تستطيع الحلول مكان السلطة ودورها، بل تجاهد مشكورةً فيما يتخلّى عنه العرب والسلطة.
يجب أن تقوم السلطة الفلسطينية بمسؤولية وشجاعة بواجبها، وأن تنزع أيَّ حجّة لوقف التطبيع، وتباشر في تحرّك عربي فاعل، فالهدف يجب أن يكون استثمار زخم التأييد العالمي لشنّ حملة لفرض عقوبات على إسرائيل. لكن، واضحٌ أنّ دولاً عربية معنية بعلاقاتها مع إسرائيل و”إثبات حسن النية” تضعف نفسها وتضعف الحملات العالمية ليبقى الشعب الفلسطيني، وحتى هذه الدول، تحت رحمة إسرائيل.
المفارقة أنّ أصواتاً صهيونيةً باتت تحذّر من أنّ إمعان إسرائيل في احتقارها للفلسطينيين والدول العربية يهدّد الاتفاقيات العربية والإسرائيلية، ومستقبل توسيع التطبيع وضمّ دول عربية وأجنبية إلى المعاهدات الإبراهيمية، فيما تجاهد الدول العربية لعدم المس بهذه الاتفاقيات، وحتى التهديد بتجميدها. وهنا لا يمكن إغفال نقطة غاية في الأهمية، فضلاً عن تحريك السلطة الفلسطينية حملة عقاب إسرائيل، ومباشرة الدول العربية بتحرير نفسها من خوف تجميد التطبيع حتى تكون قوةً فاعلةً دولياً، وهي المفاوضات السورية الإسرائيلية. وذلك لا يعتمد على قرار القيادة السورية فحسب، بل على الدول العربية الداعمة لدمشق لوقف المهزلة، ليس من أجل توحيد الموقع العربي في العلاقات الدولية فحسب، بل لإنقاذ سورية من وحش، ندينه في المحافل الدولية ويحاول فرض شروطه على دولة عربية بعد تدميره قدراتها العسكرية واستباحة أراضيها، فأيّ منطق هذا؟ ولماذا ستأخذ إسرائيل أيّاً من الخطابات العربية بجدّية. والموقف نفسه ينطبق على لبنان، فليس المشكلة في موقف النخب اللبنانية فحسب، بل في أن الدول العربية تركت لبنان أيضاً وحيداً.
جلسات الأمم المتحدة وموجة الحركة التضامنية مع فلسطين أثبتت أن إسرائيل تعاني عزلةً أخلاقيةً غير عادية. لكن من دون موقف عربي، وليس فلسطينياً فقط، من التطبيع، وإعادة جعل القضية الفلسطينية القضية المركزية، وأنّ إسرائيل تشكّل خطراً استراتيجياً على الجميع، فسيجد الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون والشعوب العربية أنفسهم فريسةَ التوحّش الإسرائيلي، كلّاً على حدة، يوم لا ينفع الندم.