ترامب والطريق إلى “نوبل للسّلام”

توفيق شومان

حرير- قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في الخامس من فبراير/ شباط الماضي (2025)، إنه يستحقّ جائزة نوبل للسّلام، أسوةً بأربعة رؤساء أميركيين سبقوه إلى البيت الأبيض، أوّلهم ثيودور روزفلت (1906)، وآخرهم باراك أوباما (2009). ويَفترض الضالعون بترشيح ترامب لتلك الجائزة العالمية أن مسعاه إلى إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية، وقدرته على إطفاء براكينها يخوّلانه نيل قلادة “رجل السّلام”. لا داعي لاستحضار رؤية الرئيس ترامب لـ”اليوم التالي” في قطاع غزّة، وجحيمه المفتوح على النار أو التهجيرَين، القسريّ والطوعيّ، وكذلك هي أحوال لبنان وأهوال سورية، إذ الأفعال الإسرائيلية لا أصداء ولا جلجلة لها في واشنطن، كأنّ لا عينَ رأت ولا أذنَ سمعت، فيما السؤال التائه، والدائر في فلك نفسه، يتمحور حول هويّات الشخصيات التي نالت الجائزة، وفي سلوكاتها وسيَرها الذاتية ما هبّ ودبّ من حومات الوغى.

وإذ يُقال في الشارع العام إنّ حروب التهجير تنطوي على شرور شيطانية مقطوعة جذورها مع ملائكة الرحمة، فالذريعة الأخلاقية التي سوّغ بها الرئيس ترامب دعوته إلى تهجير أهالي غزّة قامت على الموازنة بين الموت في القطاع أو الحياة في مِصرٍ من أمصار المسكونة، ولعلّ المقالة الأيديولوجية التي سطّرها تسفي سادان، في موقع القناة السابعة الإسرائيلية (3/2/2025) قد تكون الأوضح تعبيراً في الربط بين مشروع ترامب و”التطوّر الأخلاقي” للجيش الإسرائيلي، وخلاصة المقالة تفاضلُ بين حرب الإبادة، التي قد يخوضها جيش الاحتلال، وإخراج الغزّيين من أرضهم، وبما أن الموانع والحوائل “الأخلاقية” الإسرائيلية لا تتيح ذلك، فالبديل تهجير أهالي غزّة إلى كلّ فجّ عميق.

قد تكون الإجابة عن احتمال أن يحوز ترامب جائزة نوبل للسّلام سابقة لأوانها، وقد يردّد كثيرون قولاً فحواه أنّ السّلام بين أوكرانيا وروسيا لو استطاع ترامب إليه سبيلاً، لا يَجُبّ طروحات ترامب ودعوته إلى التهجير، وربما آخرون يأخذهم السؤال: كيف تستوي الفاحشة بالحسنة؟… في واقع الحال، لا تستند منطلقات “نوبل” إلى ركائز المدنية الفاضلة للفارابي، ولا إلى الجمهورية المثالية لأفلاطون، فدفاتر أيّام الجائزة حافلةٌ بأسماء من هجّروا ملايين الناس أو نظّموا تهجيرهم، ثمّ احتُفي بهم رجالاً للسّلام، وبولغ في إكرامهم. وفي فاتحة الأسماء مندوب النرويج في عصبة الأمم، فريدجوف نانسن، إذ بعد الحرب التركية اليونانية (1922)، عمل نانسن في مقترح “تبادل السكّان” بين الأتراك واليونانيين، ما أفضى إلى تهجير متبادل لما يقارب مليونَي شخص. ومع ذلك، نال نانسن جائزة نوبل للسلام جرّاء مقترحه ذاك. وبعد نانسن، يحلّ القادة الكبار في الحرب العالمية الثانية، جوزيف ستالين، وونستون تشرشل، وهاري ترومان، إذ شرّعوا تهجير 12 مليون ألماني من أوروبا الشرقية، وصور قوافل المهجرين ومشاهدهم ما فتئت منتشرةً ومتداولةً في المطبوعات ووسائل الإعلام المختلفة. لم يحصل القادة، الداعون إلى تهجير ملايين الألمان، على “نوبل”، إلّا أنهم نالوا تقديراً رفيعاً من مؤتمر بوتسدام في 1945، لأنهم وضعوا حدّاً للحرب العالمية الثانية، على ما يقول تسفي سادان، ليأتي بعد ذلك وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر فيحوز نصف الجائزة عام 1973، رغم أنه عمل على تنظيم تهجير أربعة ملايين نسمة من سكّان الهند الصينية (فيتنام ولاوس وكمبوديا)، وفي حين رفض شريكه الفيتنامي الشمالي، لو دوك ثو، استلام النصف الآخر، كتبت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية معلّقةً على نيل كيسنجر الجائزة (17/10/1973): “جائزة نوبل للحرب”.

ومع إطلالة تسعينيّات القرن العشرين، وما رافقها من انهيار المنظومة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، احترقت يوغوسلافيا بالحروب الأهلية، وكان أعنفها (وأشنعها) ما جرى في البوسنة والهرسك، حين شنّ الصرب حرب إبادة على البوسنيين بين 1992 و1995، وانتهت فصولها باتفاقية دايتون، التي أشرف عليها المبعوث الأميركي، ريتشارد هولبروك، فكانت جائزة نوبل للسلام من نصيبه، فيما تنظيم التهجير كان من نصيب ما لا يقلّ عن مليوني شخص.

ما يمكن أن يقال بعد هذا السرد؛ إنّ تهجير السكّان أو تنظيم تهجيرهم (أو مشروع التهجير)، كما هي الحال مع الرئيس دونالد ترامب، ليس من ابتداع بنات الأفكار الهذيانية المندرجة في نسق اللامعقول طبقاً للمفاهيم الأخلاقية العامّة، فمشاريع التهجير أو الدعوات إليها (أو أفعالها) هي استخراج المكبوت والمخبوء من السياسات غير المعلنة أو السياسات المؤجّلة، وعندما يحين أجلها تُخرج من جُحرها بطرائق متفاوتة، على طريقة بنيامين نتنياهو، المستعين بالنصّ التوراتي، أو على طريقة دونالد ترامب، المغرم بنماذج ديزني لاند أو الريفييرا، أو على طريقة جوزيف ستالين، المتخم بنظرية المثال السوفييتي الإدماجي لملايين التتار، فأخرجهم قسراً من شبه جزيرة القرم إلى مجاهل روسيا، أو على طريقة ماو تسي تونغ، الذي كان هائماً بنصوص التصنيع الماركسية، فأجبر عشرات ملايين الصينيين على الهجرة (التهجير) من عالم الفلاحة والزراعة إلى عالم الصناعة، ففُرِّغت القرى والأرياف من قاطنيها، وأصابت التهلكة الملايين في ما عُرف بـ”القفزة الكبرى” بين 1959 و1961.

يحفل تاريخ البشرية بالمُهجّرين والمظلومين، وصورتهم الحاضرة، ممثّلة بالعرب الفلسطينيين، لكنّ الظلم شيء، وسياسات الكبار أشياء أخرى، وقد يكون من الاستغراب والاستهجان بمكان أن تسقط الدهشة على بعض العرب حين يسمعون الرئيس ترامب يتحدّث أكثر من مرّة عن “حياة جميلة” للغزّيين خارج أراضيهم، وكأنّ التاريخ فارغ ممّا قاله ترامب أو نادى به، وكأنّ بن غوريون لم يقل ذلك، وكأنّ غولدا مائير لم تقل إن مشكلة الفلسطينيين ليست مع إسرائيل، بل مع الله ووعده لنسل إبراهيم، وكأنّ إسحق رابين لم يتمنَ لو يبتلع البحر قطاع غزّة. أمّا عن الدهشة التي قد تستعاد لو استطاع ترامب إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية، ما يرفع أسهمه في قطاف جائزة نوبل للسّلام، كما تردّد الحلقة المقرّبة منه، فهل يحقّ بعد ذلك لأحد منّا أو لـ”نحن” الجماعية، أن يسأل/ تسأل: كيف، ولماذا؟

مقالات ذات صلة