في مقدّمات “طوفان الأقصى” وأسبابها

أسامة عثمان

حرير- بعد أحاديث الصدمة الإستراتيجية الموجعة التي تلقَّتها دولة الاحتلال، وطاولت أعزَّ مواطن اعتدادها؛ منظومة الجيش والاستخبارات، وسائر الأجهزة الأمنية والدفاعية، يلزم البحث عن الدافع الذي أدّى إلى اتِّخاذ القرار، بهذه العمليات العسكرية النوعية الفائقة التي أعلنتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، مع فصائل المقاومة في قطاع غزّة؛ إذ يمكن أن تذهب الاحتمالات في اتجاهاتٍ شتّى، منها ما أعلن عنه، مباشرة، قائد كتائب عز الدين القسّام، محمد الضيف، وهو وضع حدٍّ لتمادي دولة الاحتلال في أشكال العدوان والجرائم، على المقدَّسات، وفي مقدمها المسجد الأقصى، والعدوان على الفلسطينيين في الضفة الغربية، إلى درجة إطلاق العِنان للمستوطنين، واستباحة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، ومصادرة الأراضي، مع ممارسة أساليب القهر والإذلال على الأسرى الفلسطينيين.

وقد تذهب بعض الاحتمالات إلى الرغبة في إفشال مساعي التطبيع مع السعودية، وغيرها من الدول العربية، أو الإسلامية، وما قد يعنيه ذلك من تجاوُز القضية الفلسطينية، وفرْض الرؤية الاحتلالية، من طرف واحد، بالغ التطرُّف والغطرسة. وقد يستشفُّ بعضهم في هذه الجرعة المكثَّفة من الضربات الصميمية محرِّكًا توجيهيًّا نحو تطويع التعنُّت الاحتلالي، على المستويين؛ القيادي والشعبي، بضرورة تقديم تنازلاتٍ يرونها “مؤلمة”، ذلك بعد أن روَّج رئيس حكومة، بنيامين نتنياهو، وغيره، إمكانية اعتماد معادلة “السلام مقابل السلام”، أو تقديم مغريات تكتيكية، أو “تسهيلات” للفلسطينيين، أو، في أحسن الأحوال، ما يُعرَف بـ”السلام الاقتصادي”، وهو ما أفضى، في المجمل، إلى تهميش الشأن الفلسطيني، في انتخابات الكنيست، أو ما تُسمَّى عملية السلام، أنْ تؤثِّر في اختيارات الناخبين. والرسالة من وراء هذا الدرس المؤثِّر، بل المؤلم؛ أنه لا يمكنكم الاستمرار في هذا الاحتلال، على هذا المدى المفتوح، ثم انتظار إسدال الستار على هذا الصراع، نهائيًّا، من الدول العربية، وفي مقدمها السعودية، فمثل هذه التسويات التعسُّفية لا تحمل أيَّ معقولية تكفل لها الوقوف على رجليها.

وفي الواقع، كانت المخطّطات الاحتلالية القاضية بفرض السيادة على المسجد الأقصى؛ أو العمل على تهميش الوجود الفلسطيني؛ الإسلامي، قد وصلت إلى منعطف متقدِّم، وخطير؛ إذ زادت أعداد المقتحمين له؛ من اليهود المتطرِّفين الذين يعلنون نيّاتهم وأهدافهم؛ في إحلال هيكلهم مكان المسجد الأقصى، وطالب وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، بإجراء تغييراتٍ جوهريةٍ في نظام العمل في حرم المسجد الأقصى، و”إتاحة المجال للمصلين اليهود على مدار الساعة؛ بلا قيود، أو تقاسم زمني، مع المصلين المسلمين”. وبعَث رسالة إلى نوّاب الائتلاف، يخبرهم فيها بأنه “مصمِّم على المُضيِّ في الطريق إلى الجبل (الأقصى)”.

وإن كان نتنياهو لم يستجب، بعد، لذاك المطلب، إلا أن الاتجاه العام يسير إلى إرضاء بن غفير، ومَن يمثّل من أحزابٍ ومنظمات وزعماء دينيين، إما لانتفاء التعارض الأيديولوجي العميق أو لأن حاجة نتنياهو إلى استرضائه ضرورة لبقائه السياسي، واستننقاذ نفسه من القضاء الذي يلاحقه، ويهدّد مستقبله السياسي.

وعلى صعيد الممارسة الفعلية، بلغت انتهاكات المستوطنين المتطرّفين مرحلة متقدِّمة؛ ففي الأعياد اليهودية الأخيرة، جرى، وفق مصادر في الأوقاف الإسلامية، “اعتداء خطير، وتصعيد في العدوان على المسجد الأقصى، من المستوطنين الذين أدّوا اليوم خلال اقتحاماتهم ما يُعرَف بصلاة السجود الملحمي”. ومما أنذر بخطورة بالغة ووشيكة تورُّط حكومة الاحتلال المباشر في مخطّطات استهداف المسجد الأقصى، فقد كشفت قناة “12” النقاب أنّ وزارات في حكومة نتنياهو منخرطة في مساعدة حركات الهيكل على تحقيق مخططها، القاضي ببناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى. وذكرت صحيفة معاريف أنّ وزارة التراث التي يقودها الوزير عميحاي إلياهو، الذي ينتمي إلى حركة القوة اليهودية التي يتزعَّمها بن غفير، لعبت دورًا في استيراد أربع بقرات حمراء، من ولاية تكساس الأميركية، بغرض اختبارها، ومعرفة ما إذا كانت تصلح للاستخدام في تطهير المسجد الأقصى، قبل بناء الهيكل على أنقاضه. وحسب التحقيق، تدلُّ المشاركة الفاعلة لحكومة نتنياهو في تمويل المشروع وتنفيذه على أنه مشروع دولة إسرائيل، وليس مشروع هذه الحركة، أو تلك.

وتعكس كلُّ هذه المؤشِّرات تقديرًا رسميًّا احتلاليًّا مستهينًا بالموانع، أو العوائق الفلسطينية، أو غيرها. ويغري هذا التقدير بالاستعجال، في هذه المخطّطات، استغلالًا للفرصة السانحة، واستثمارًا لما يراه نتنياهو نجاحاتٍ تطبيعيةً تُحيِّد الدول العربية المطبِّعة، أو السائرة نحو التطبيع، من دون حلِّ القضية الفلسطينية، ومن دون حتى تقديم أيّ ضماناتٍ تفضي، لا إلى استرداد المسجد الأقصى، والسيادة عليه، بل ضمانات للحفاظ على “الوضع القائم” للمسجد الأقصى. وكان قادة حركة حماس أكّدوا، في مناسبات متكرِّرة، أنَّ المسجد الأقصى خطٌّ أحمر، وأنَّ المساس به سيفتح باب الصراع، على آخره. وهذا التشديد على “الأقصى” نابع من عقيدة حماس الدينية، كما أنه ناشئٌ عن إدراكها، (بوصفها حركةً سياسية وطنية، تهمُّها جدًّا ثقةَ الشعب الفلسطيني) الأهميةَ القصوى التي يُكِنُّها هذا الشعب للمسجد المبارك، من منطلقات دينية، ومن منطلقات وطنية، سيادية، تقديرًا بالغًا، وإستراتيجيًّا؛ الأمر الذي تنسجم معه تقديرات مراقبين إسرائيليين، ذهبت إلى أن “تأجيج الصراع حول القدس وداخلها يمثّل “تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل”.

وإلى جوار هذا الدافع تمامًا، يقف العامل المعنوي، إذ لم تكن انتهاكاتُ الاحتلال ومستوطنيه تُجرِّد استهدافها مقدَّسات الفلسطينيين، ولهم، أنفسهم، مِن عامل الإهانة والاستفزاز، كما في انتهاك جنود الاحتلال المسجد الأقصى، القِبْلي، بأحذيتهم، وتكسير زجاج نوافذه، فضلًا عن إلقاء قنابل الغاز فيه، ثم عرْض صور الشباب من المصلِّين فيه، وهم ممدَّدون على وجوههم. هذا بالإضافة إلى الاعتداء الوقِح والقاسي على النساء، والشيوخ، علاوةً على الشتائم الموجَّهة إلى النبي محمَّد، والشتائم العنصرية إلى العرب، الكاشف عن معتقداتٍ تستبيح دماءَهم، وأرواحهم، ووجودهم في فلسطين.

أما أنْ يكون لعملية طوفان الأقصى دوافع أخرى، مصاحبة، كتعطيل التطبيع، فهذا محتمل، وقد يكون مُرادًا، وإنْ لم يكن مضمونَ الصلة، إلا بأثرٍ غير مباشر؛ بأنْ يغذِّي رأيًا عامًّا مضادًّا للتطبيع، في الدول الراغبة فيه؛ ذلك أن المسار التطبيعي قرَّر الانطلاق، أوَّلًا، من منطلقات الدولة نفسها، من دون التوقُّف على تطوُّرات الحالة الفلسطينية، مع إظهار بعض اللفتات غير الجوهرية إلى الفلسطينيين، وأحوالهم.

وفيما يتعلَّق بالربط بين هذه الهزَّة العميقة التي أنتجتها عملية طوفان الأقصى وتهيئة المناخ لشروط سلامٍ أكثر قبولًا، فليس بالأمر البعيد؛ كاستثمارٍ ممكنٍ من الدول القائمة على هذا السلام، وإنْ كانت التحوُّلات التي دمغت كيان إسرائيل باعدَت بينها وبين حالتها، إبّان حرب أكتوبر (1973) لصالح تعمّق البُعْد الديني اليميني، وتأثيراته في مجمل المؤسسات، في دولة الاحتلال.

مقالات ذات صلة