عبّاس يُعبّد شوارع رام الله في بكّين ويتخطّى “الاستيطان الصيني”

رزان شوامرة

حرير- بعد الزخم الإعلامي الصيني والعربي لزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس الصين، ينتهي به المطاف بتوقيع اتفاقيات “تؤامة” لتعبيد شوارع رام الله! فقد نشرت وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا)، الأربعاء 14 يونيو/ حزيران، خبرًا أن الوفد الفلسطيني تفاوض مع الجانب الصيني بشأن مشاريع تدريس اللغة الصينية في المدارس الفلسطينية، والإعفاء من التأشيرة لحاملي الجوازات الدبلوماسية، واستكمال تعبيد طرقٍ في رام الله. كان من المفترض أن يكون على أجندة الرئيس القضايا الكبرى التالية على أقلّ تقدير: الطلب من الصين التحرّك العملي، وليس فقط التصريحات اللفظية، وقف الاستثمار الصيني في المستوطنات، تعديل الخطاب الصيني الذي يساوي بين جرائم الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، والتراجع عن الخطاب الداعم ليهودية الدولة الإسرائيلية، أو محاولة البحث في الأدوات التي تمتلكها الصين للضغط على إسرائيل لوقف سياساتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

أدّت استراتيجية “خلق الانطباع” التي تعتمدها الصين في الوطن العربي إلى نشر أغلب الوكالات والفضائيات العربية خبرًا مفاده بأن الزيارة تشير إلى رغبة الصين في لعب دور الوساطة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وتقوم هذه الاستراتيجية على مواصلة تقديم خطاباتٍ لفظية، سواء على مستوى الإقليم العربي أو العالم تكرّر موقف الصين الداعم لفلسطين. لكن هذه الخطابات لا تترجم على أرض الفعل السياسي بشكلٍ يُحدِث تغييرًا حقيقيًا. الصين دولة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن، ولا يكفي أن “تقول” و”تصرح”، وما هو مطلوب منها هو متابعة القول بالفعل إثباتًا لصدقيّة الموقف.

وفي إطار استراتيجية خلق الانطباع هذه، روّجت الصين كثيرًا لزيارة عبّاس ومنحتها خصوصية مميزة، عبّر عنها المتحدث باسم وزارة خارجيتها وانغ وين بين قائلًا “إن عباس أول رئيس دولة عربي تستقبله الصين هذا العام، وهو ما يجسّد المستوى العالي للعلاقات الطيبة بين الصين وفلسطين.” وهنا تعزّز الصين ادّعاءها أن للقضية الفلسطينية خصوصية تفوق القضايا الإقليمية الأخرى في السياسة الخارجية الصينية. وعلى ذلك، يكون السؤال: هل هناك توازن بين قيمة الدعوة وما نتج عنها؟ ببساطة، لا. فبدل أن يذهب عبّاس إلى البحث فيما تمتلكه الصين من أدوات للضغط على إسرائيل، ضَمِنَ تعبيد شوارع رام الله. تثبت هذه الزيارة، بشكل جلي، أنه لا يمكن للصين أن تلعب الوسيط في الصراع، وهنا أضع بعض مؤشّرات دالة على ذلك.

أولًا، تقليص الصين التدريجي عدد النقاط الواردة في مقترحاتها لحلّ الصراع، والتي وصلت مع هذه الزيارة إلى أربعة مقترحات منذ عام 1989. ورافق التقلص التدريجي للنقاط كل مقترح ضعف في جوهر المقترحات ذاتها، والتي تشير إلى التراجع التدريجي لزخم القضية الفلسطينية على أجندة الصين خلال الـ 30 عامًا الأخيرة.

قدّمت الصين عام 1989 مقترحًا بعنوان النقاط الخمس Five-Point Proposal ونصّ على ضرورة حل قضايا الشرق الأوسط بالوسائل السياسية؛ إعادة الأراضي العربية المحتلة، وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وضمان أمن إسرائيل؛ دعم عقد مؤتمر السلام للشرق الأوسط بمشاركة الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن؛ دعم الأطراف في الشرق الأوسط لإجراء حوار بمختلف أشكاله؛ وأخيرًا، الاعتراف المتبادل بين فلسطين وإسرائيل. أما المقترح الثاني، فكان في عام 2013، حيث أعلن شي “مقترح النقاط الأربع”: حصول الفلسطينيين على دولة مستقلّة ذات سيادة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، واعتبار ذلك حقًا غير قابل للتصرف، واحترام حق إسرائيل في الوجود وأمنها احترامًا كاملًا؛ المفاوضات هي الطريق الأفضل والوحيد لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتحييد المدنيين من الصراع، ورفع الحصار عن قطاع غزّة، وحل مشكلة الأسرى؛ على الطرفين احترام قرارات الأمم المتحدة والتمسّك بمبدأ “الأرض مقابل السلام”. وأخيرًا، التركيز على دور المجتمع الدولي في تقديم ضماناتٍ من أجل إحراز أي تقدّم في عملية السلام.

وبالانتقال إلى المقترح الثالث، كان الأكثر تفصيًلا والأفضل بينها، بعنوان “مقترح النقاط الأربع” عام 2017، وهي، تدعم الصين بقوة حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة الكاملة على أساس حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية؛ التمسّك بمفهوم أمني مشترك وشامل وتعاوني ومستدام. وتدعو الصين إلى التنفيذ الفعّال لقرار مجلس الأمن رقم 2334، وتوقف جميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي المحتلة على الفور، وتتّخذ تدابير لمنع العنف ضد المدنيين على الفور. واستئناف محادثات السلام في أسرع وقت، وتسريع التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، وتحقيق الأمن المشترك والدائم بشكل أساسي؛ على المجتمع الدولي تعزيز التنسيق وإطلاق مبادرات المشاركة المشتركة في أقرب وقت. الصين مستعدّة للانضمام إلى جميع الجهود التي تؤدّي إلى التسوية السياسية للقضية الفلسطينية ودعمها. ومن المقرّر عقد ندوة سلام فلسطينية إسرائيلية لتقديم أفكار جديدة لحل القضية الفلسطينية؛ في أثناء دفع المفاوضات السياسية إلى الأمام، يجب أن نولي أهمية كبيرة لقضايا التنمية وتعزيز التعاون الفلسطيني الإسرائيلي. تعتبر الصين فلسطين وإسرائيل شريكيْن مهمين في “مبادرة الحزام والطريق” وهي على استعداد لتنفيذ تعاون متبادل المنفعة بروح “السلام من خلال التنمية” لدعم التنمية المتسارعة لفلسطين بشكل مستمرّ. تقترح الصين إطلاق آلية حوار ثلاثية مع فلسطين وإسرائيل، لتنسيق المشاريع الرئيسية لمساعدة فلسطين وتعزيزها.

اليوم، يقدّم شي جين بينغ مقترحه الثالث منذ أن أصبح رئيسًا عام 2013، بعنوان مقترح النقاط الثلاث، والمليء بالينبغيات والخالي من أي ذكر للاستيطان، والرغبة في الوساطة أو تحمّل مسؤولية الملف. وهي كالآتي، بحسب وكالة شينخوا: يكمن الحل الأساسي في إقامة دولة فلسطين المستقلة، تتمتع بسيادة كاملة على أساس حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية؛ يجب تلبية الاحتياجات الاقتصادية والمعيشية لفلسطين، ويحتاج المجتمع الدولي إلى زيادة المساعدة الإنمائية والمساعدات الإنسانية لفلسطين؛ من المهم الحفاظ على الاتجاه الصحيح لمحادثات السلام، ويجب احترام الوضع التاريخي الراهن للأماكن المقدّسة في القدس، وتجنب الأقوال والأفعال المفرطة والاستفزازية. ويجب عقد مؤتمر سلام دولي واسع النطاق وأكثر موثوقية وتأثيرًا من أجل تهيئة الظروف لاستئناف محادثات السلام والمساهمة في جهود ملموسةٍ لمساعدة فلسطين وإسرائيل على العيش بسلام.

المؤشّر الثاني لعدم قدرة الصين ورغبتها في أن تمارس دور الوساطة يتمثل في أنها أصبحت جزءًا من الأزمة. وبالرغم من ادّعاء الصين ممارسة الحياد، فإنها تنحاز عمليًا لإسرائيل في أهم القضايا المتعلقة بالصراع، وهي، يهودية الدولة، تعزيز الوجود الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية عبر الاستثمار في مشاريع البنية التحتية والاستحواذ على بعض الشركات في داخل المستوطنات، ودعم التطبيع العربي، والمساواة بين جرائم إسرائيل وردود أفعال المقاومة الفلسطينية وخصوصًا في غزة واتهامها بممارسة الإرهاب والعدوان. وبالتالي، لا يمكن لطرفٍ يتعدّى على حقوق الشعب الفلسطيني أن يكون وسيطًا لحل الصراع، ولهذا فشلت جهود الفلسطينيين في إقناع واشنطن بالضغط على إسرائيل، لأن واشنطن جزء من الحالة وطرف رئيسي. لقد تخطّى شي الاستيطان في هذا المقترح، ولم يطالب بوقفه فورًا كما فعل عام 2017؛ لأنه أصبح جزءًا من الاستيطان وداعمًا فعليًا له على الأرض. لقد انتهكت الصين القانون الدولي في الأربع قضايا المشار إليها، ففي كل منها تقع مسؤولية دولية على الصين تجعل الطرف الفلسطيني، لو كان جدّيًا، قادرًا على ملاحقتها في المحاكم الدولية، أو على الأقل التلويح بذلك للضغط عليها لتعديل سلوكها.

ويتعلق المؤشّر الثالث بالطرفين الرئيسيين، فلسطين وإسرائيل. وكلاهما يعيان أن الصين لن تقدّم لهما ما تقدمه واشنطن من دعم مادي، ودعم عسكري وسياسي لإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، لن تسمح واشنطن للصين بأن تخترق هذا الملف.

المؤشر الرابع والأخير متعلّق بأولويات الصين، حيث، وكما يقول المثل الإنكليزي، “الصين لديها سمكة أكبر لقليها” It has a bigger fish to fry، وهي جنوب شرق آسيا والصراع في محيط تايوان. وبرغم أن شي دعا عبّاس، فإن الزيارة جاءت في وقت تزايدت فيه المنافسة الأمنية واحتمالات المواجهة العسكرية مع واشنطن في بحر الصين الجنوبي. أولوية الصين اليوم كيفية الهيمنة على محيطها الإقليمي وتخفيض التنافس الأمني فيه مع واشنطن. ولذلك، لن تحمل بكّين عبء الملفّ الفلسطيني – الإسرائيلي، حتى لو لم تكن واشنطن في الصورة.

يعود عبّاس إلى فلسطين محملًا بنجاحات عظيمة، أهمها تعبيد شوارع رام الله. لقد أفقدت سياسات السلطة الفلسطينية والانقسام زخم القضية الفلسطينية وأهميتها على الساحة الدولية، وأحبطت كل الأنشطة التي كان من شأنها أن تعزّز موقفنا، ولو بشقّ تمرة. وأخيرًا، بعد أن وقع عبّاس اتفاقية لتعليم اللغة الصينية في المدارس الفلسطينية، هل سيفعل كما فعل بن غوريون عندما كان عمره 60 عامًا ويلتحق بإحدى المدارس ويتعلّم الصينية؟ لقد ناديتَ لو أسمعت حيًا، لكن لا حياة لمن تنادي.

مقالات ذات صلة