الباحثون عن الروح في أميركا

مهنا الحبيل

حرير- ديف شبيل من أشهر ممثلي “الستاند كوميدي” التي تحصد له عشرات الملايين من الدولارات، اعتنق الإسلام في رحلة بدأت منذ عمر السابعة عشرة، بسبب رواية شائقة، قصّ حكايتها في مقابلاته، وكانت مرتبطة بالتعرّف على سلوك عمّال مسلمين، في مطعم بيتزا قريب من سكنه، جذبه لهم سلوكهم وأخلاقهم، فدعوه كما دعاه غيرهم إلى الانضمام إلى ركب المسلمين، وهو ابن لأستاذين أكاديميين من الأميركيين الأفارقة. ولكن شبيل رأى أن يمضي في طريقه الفني، وهو عالم معبّأ بالماديات، صاخب في سوقه، ويتقاطع مع قبضة السوق الرأسمالي، إن لم يكن في قبضتها، وأين هذا السوق؟

إنه في أميركا، ملعب الحداثة المادية الضخم، وحيث تهيمن ورشةٌ لا تهدأ من صناعة السوق، بعض هذا التصنيع وتجارته الرائجة، هو في ضخّ مفاهيم الإثارة الحديثة، وإشعال الأجيال بها، ثم حصاد نتائج هذا الإقبال من نوافذ صناديق السوق الرأسمالية التي تدخل كل بيتٍ من هذا العالم.

حكاية طويلة ليست هذه المقالة في وارد الاستطراد فيها، كما أننا لا نلغي مسارات جانبية أخرى، قد تكون ذات معنى مفيد وإشارات ضوء رشيدة، أو نبيلة في طيات العهد الأميركي، أو بين حشود الأمم المزدحمة فيه. وقد لفت نظري أن ديف شبيل عَبَرَ أيضاً من رواق حي هارلم في نيويورك، الحي الذي ينبض بذاكرة الصدام، والتمرّد، ويعكس مركزية المقاومة مع العنصرية، كما يعكس قرار الأميركي الأفريقي بتحويل حربه إلى فوضى، قد تهلكه كما تهلك خصومه، إلا في رحلة مالكوم إكس التي نحتاج للعودة لها.

إذن، انهالت ثروة الحياة على شبيل، ورأى أن يمضي فيها لكي يحصد نصيبَه منها، ومع ذلك ظلّ متمسّكاً في لقاءاته بشرح الدين الجميل كما يسميه، وهو الإسلام، غير أن هذا الصخب وعربات النقود المتتالية تظل تجذب قلب الإنسان حتى لو كان مسلماً، وقد تكون مادته الإعلامية التي تعبر بين أروقة سوق وول ستريت، وبورصات هوليوود وغيرها، لها ما يبرّرها، في إدخال السعادة والبهجة على الناس.

الناس حيث كانوا أو أسرة الإنسان الكبيرة، والتي هي جزء أساسي بل جوهر محنته تكمن في عمق هذا السوق، ازدحمت العقود على ديف شبيل، في لحظةٍ من تاريخه الناجح أقبل عليه موسم عقد جديد، فرصة ثروة جديدة، لكن بلغه اتصال عاجل، ديف.. والدك مريض، لعلك تزوره، هنا كان مكنوناً في ضميره يحاول الخروج، يهتف فيه من بعيد، لكن صخب السوق أصمّ آذان القلب، قال ديف: سأمضي في الموسم، ثم أتوجه لزيارة والدي بعد انقضائه.

بعد أيام، وصل إلى شابيل الخبر العاجل الجديد، ديف.. والدُك قد مات. .. ماذا؟ لن أدرك رؤيته، هل رحل، ألن أرى والدي من جديد. .. انهارت قواه، وانخرط في رحلة وجدانه الأسيف المتألم، باتت الدنيا سوداء بين عينيه، مظلمة رغم أضواء المسرح الأميركي، التي تشخَص لها الأبصار، ترك الموسم وقرّر أن يحجّ إلى أفريقيا. كان ديف متأثراً برحلة السيدة هاجر في الحج، بإيمان إبراهيم أبي الأنبياء، بقصة زمزم الذي انفجر تحت قدم إسماعيل، ولكن زمزم الرحمن ضمّ روح هاجر، وأنزل السكينة عليها. هو المعنى ذاته الذي قرّر أن يقصده في أفريقيا. يقول ديف شبيل إن الإنسان الأفريقي القديم كان في مواسم الجفاف يفتقد مواضع المياه، فيحبس قرد البابون ثم يترك الملح متاحاً أمامه، والبابون يحب الملح، فيلتهمه ويعطش، حتى إذا تمكّن منه العطش، أطلقه فإذا هو يشتم ريح الماء ولو بعد، فيتتبعه صاحبه حتى إذا وصل وشرب، عرف الرجل الأفريقي بئر الحياة.

يبتسم شبيل بألم وهو يقول لأوبرا وينفري، في مقابلة تلفزيونية معها: “لقد عطشتُ للروح ولكني لم أكن بذكاء ذلك القرد، جاءني نداء الروح لكي أسقيها من أبي، ولكنني تخلفت عن اللحظة”.

إنها القصة العميقة، التي نبصرها في هذا العالم الجديد، عالم يتسابق في تزييف الواقع، يضلل الرؤية، يهدم كل صلة بالأرواح وبخالقها، ويعمل على هدم كل فضيلة وقيم، ولذلك وهنا المفارقة، أن البحث عن الروح، لا يزال قائماً في قلب أسواق الحداثة الرأسمالية، لأنه يقين وحقيقة، ولأن الإنسان حين تعطش روحه، يلتمس الطريق إلى سقياها، فمن يسقيها إلا الله؟

كان ذلك الهاجس يسير معي في هارلم، وبقية شوارع نيويورك، كنتُ أشعرُ بأني أطوف حول صورتين متناقضتين، ولقد حدثني أحد الباحثين المهتمين، بأن إدارة المدينة قديماً، وبكل مركزياتها، من حكومة محلية وشرطة وغيرها، قد نفذت مقترحا تقدّم به الأكاديميون لتغيير وضع حي هارلم، الذي بات في قلب المدينة، ولكن نسب العنف والمخدّرات والجريمة، تمنع المدينة من فتحه للسياح واستثماره وضبط حركته.

وبالطبع، لن تتوجّه المركزية الرأسمالية في أميركا إلى علاج يخرج به المحرومون الغاضبون في هارلم، من الأميركيين الأفارقة، إلى حياة جديدة تُصنع بمداد الروح، كيف يَمنح صُنّاع الوباء الترياق للضحايا، من البيض أو من الأميركيين الأفارقة، فالبناء الرأسمالي يتقدّم كل شيء وعبر كل شيء، فكانت الحيلة أن هذا الحي لن يقبل إلا أخوة أفريقيا، الأشقاء للأميركيين الأفارقة، والمستقلين عن تاريخ الرجل الأبيض الأميركي. فاستقدمت الهجرة الأميركية شعباً جديداً لهارلم من غرب أفريقيا، يُصلّون ويصومون ويرفضون الكحول والمخدّرات، فتغير حال الحي وبدأ الاستثمار فيه، كان من الممكن أن يتم ذلك عبر منظمات الأميركيين الأفارقة المسلمين، لكن ذلك قد يهدّد توازنات القوى التي تراعيها السلطات الأميركية وعمقها الرأسمالي. وفي كل الأحوال، كان نداء الروح والقيم هو المشترك بين القادمين الجدد من غرب أفريقيا، والأميركي الأفريقي والأميركي الأبيض، إنه نداء الروح الذي يمنح حبل الإنقاذ، رغم أن هناك من يصدّ الجميع عن بئر الحياة.

 

مقالات ذات صلة