السّلطة الفلسطينية الحردانة … لماذا كلّ هذه الخفّة؟

مقالة تحليلية... وجهة نظر

 

كما كان متوقعاً، أعلنت السّلطة الفلسطينيّة عن نهاية سياسة “الحرد” التي انتهجتْها طيلة ستّة أشهر. عن طريق تغريدةٍ كتبها حسين الشيخ، رئيس الهيئة العامّة للشؤون المدنيّة، أعلن فيها عن “استئناف الاتصالات مع “إسرائيل”، وبالتالي العودة إلى استلام أموال المقاصة، وعودة التنسيق الذي قيل إنه قُطع  منذ 19 مايو/ أيار الماضي كأداة السّلطة  الأبرز في مواجهة مشروع الضمّ.

لم تحصل السّلطة الفلسطينيّة على شيءٍ سوى ورقة ليست لها أيّ قيمةٍ سياسيّةٍ كَتَبها الحاكمُ الفعليّ للضفة الغربيّة؛ منسق عمليات الاحتلال. في البداية أرادوا تصريحاً رسميّاً ومكتوباً من أحد أقطاب الحكومة؛ غانتس وزير الأمن، أو أشكنازي وزير الخارجيّة، أو نتنياهو رئيس الحكومة، يقولون فيه إنّهم تراجعوا عن خطّة الضمّ.

ولكنهم بسرعة عجيبة تلقفوا رسالةً لا تذكرُ الضَمَّ من قريب أو بعيد، وتكتفي بـ”الالتزام بالاتفاقيات”، واعتبروا أنّ ذلك “الالتزام” يعني -ويقولونها بملء الفمّ- أنّ “إسرائيل تراجعت عن أيّ مشروع يستهدف تصفية القضيّة الفلسطينيّة”، كما يُريد لنا حسين الشيخ أن نصدّق.

لم يُوقِّع على الرسالة أحدٌ من المستوى السياسيّ الإسرائيلي، وإنّما وقّعها الحاكمُ العسكريّ الفعليّ للضفّة. وهكذا اصطفت السّلطةُ الفلسطينيّة مع رجال الأعمال أصحاب الـBMC وممثلي الغرف التجاريّة  والعمّال الغلابة على أبواب منسق عمليات الاحتلال لاستصدار التصاريح والأوراق، في مشهدٍ مُذلٍّ وبليغ  يشرح لنا بقسوة أين وصلتْ مآلاتُ الأمور.1

بحسب ما ورد من أخبار تُسرّبها المصادر الفلسطينيّة إلى صحافييها المُفضّلين؛ الإسرائيليّين طبعاً، فإنّ “الفضل” في دفع السّلطة للنزول عن الشّجرة بهذه السرعة (وهي شجرة نبتت في قاعٍ سحيق)،  يعود للمنسق. أقنع الأخيرُ السّلطة بالتنازل عن “مطالبها” شيئاً فشيئاً، ومدّ لها الحبل الذي ساعدها للنزول،أو للهرولة بتعبيرٍ أدقّ. وعلى ما يبدو لم يكن منسق الاحتلال  بحاجةٍ إلى ممارسة الكثير من الضغط، فقد كانت السّلطة -كما دائماً- جاهزةً لتلقف أيّ تلميحٍ للعودة إلى ما كانت تؤدّيه من دورٍ رتيبٍ ووظيفيّ في عملية دائمة وأبديّة للتفاوض.

بوادر الخفّة

ما إن بدأتْ المؤشراتُ تلوح بفوز جو بايدن في الانتخابات الأميركيّة حتى هرولت السّلطة إلى استجداء العودة إلى التواصل، فكثّف مقرّبو الرئيس عبّاس من نقل الرسائل تباعاً لإيجاد صيغة تبدو “معقولة” للنزول عن الشّجرة. وهكذا عادت السّلطة مجدداً إلى حضن “إسرائيل”، وأطاحت مُجدداً بخيار التصالح مع “أخوة الوطن”، فيما لُدِغت “حماس” من نفس الجحر ألف مرة.

في الفترة بين وقف الاتصالات وعودتها، لعبت السّلطة الفلسطينيّة بورقة تكتيكيّة إلى حين تغيّر الظرف الإقليميّ والدوليّ، وهي ذات الورقة التي استخدمها عبّاس مسبقاً لمواجهة أي خطر يتهدده: التلويح بالمصالحة مع “حماس”.

بدا وكأنّ المصالحة أصبحت حقيقيةً أكثر من أي وقت مضى، وأن هذه المرة “غير”. وبدأ الحديث عن الترتيب لانتخابات تشريعيّة وأخرى رئاسيّة في غضون ستة أشهر. لا بل جرى الحديث عن “قائمة مشتركة” وعن الانتخابات الأهمّ في المجلس الوطنيّ لمنظمة التحرير. وما إن بدا فوز بايدن قريباً، حتى غابت أخبار المؤتمر العام لأمناء الفصائل، وظهرت أخبار “عودة التنسيق”، مما يعني بشكلٍ ضمنيٍّ انتهاءَ مسار المصالحة.

لم يكن هذا المسار سوى ورقة ابتزازٍ لوّحت بها السّلطةُ لتشعِرَ الأميركيين والإسرائيليّين بجديّة “حردها”! وإلى أن يأخذوها على محمل الجدّ، جلست تنتظرُ نتائج الانتخابات الأميركيّة حتى تحسم موقفها.

وكما أطاحت بخيار الوحدة الوطنيّة، وقبل أن يلتفت لها بايدن سارعت السّلطة إلى تقديم أسرانا قرباناً لنيل رضى القادم الجديد للبيت الأبيض. فأرسلت عبر وسطاء غربيّين إحالة ملفهم إلى الشؤون الاجتماعيّة، ليُصبح الأسير الذي دفع عمره في سبيل وطنه فقيراً ضاق عليه رزقُه،  وبدل أن تُحسب له مخصصاته بحسب محكوميته كما جرت العادة، ستُحسَب وفق وضعه الاجتماعيّ الاقتصاديّ وعدد أفراد أسرته-  الأسرى فقراء لذلك نساعدهم، هكذا صرح  قدري أبو بكر، رئيس هيئة شؤون الأسرى.

 رواتب أقلّ.. ووطن أقلّ..

في الفترة التي رفضت فيها السّلطة استلام المقاصة أدار العربُ لها ظهورهم، ولم يلتفتوا لاستجداءاتها في يونيو/ حزيران الماضي بالحصول منهم على منحة بقيمة 100 مليون دولار. فيما رفض الأوروبيّون (الذين من المفترض أنهم آخر أصدقاء مشروع الدولتين) تقديم المزيد من الأموال، وهدّدوا بضرورة استلام أموال المقاصة وإلا سيقطعون التمويل عن السّلطة.

تُشكّل أموالُ المقاصة التي تجبيها “إسرائيل” نيابةً عن السّلطة ما يقارب 63% من الإيرادات العامة لخزينة السلطة.2 وهكذا تعطّلت رواتب الموظفين الحكوميّين البالغ عددُهم 134 ألف موظف، استلموا على مدار الأشهر الماضية نصف راتب (ما قيمته حوالي 502 دولار).

وكما انتظر الموظفون، ومعهم أسواق الضفّة الغربيّة الراكدة، الرواتب، انتظر عشرات الآلاف الحصول على أوراق ثبوتيّة لمواليدهم، أو تحويلات طبيّة للعلاج في المستشفيات الإسرائيليّة، بعد أن “أوقفت السّلطة التنسيق”. ما حدث فعليّاً، هو أن السّلطة فردت عضلاتها على ما يُسمّى “التنسيق المدنيّ”، أيّ الشق المتعلق بمصالح الناس ويومياتها ومعيشتها.

على مدار 6 شهور، لم ترسل الجهات المعنية الفلسطينيّة شهادات الميلاد لعشرات آلاف المواليد الجدد إلى الإدارة المدنية الإسرائيلية لتصديقها. وهكذا، تُرك هؤلاء بدون مستقبل واضح، في مجتمع تتمحور حياته اليوميّة حول ورقة رسميّة ثبوتية، وفق ما خطّته أوسلو لهم. غيرهم من المئات، وبالأخصّ في قطاع غزة، تُرِكوا وحدهم ولم تصدر لهم التحويلات الطبيّة اللازمة للعلاج في مستشفيات “إسرائيل”.

السّلطة الفلسطينيّة.. لماذا كلّ هذه الخفّة؟

كماالسّلطة الفلسطينيّة.. لماذا كلّ هذه الخفّة؟ في مرّات سابقة، لم يُنفذ وقف التنسيق بشقه الأمنيّ، بل جرى “تخفيضه” دون أن نعرف إلى أي حدود، فاللقاءات والتواصل بين حسين الشيخ ومنسق عمليات الاحتلال، وبين ماجد فرج ورئيس الشاباك لم تتوقف. كما سُجّلت العديد من حالات تسليم مستوطنين دخلوا عن طريق الخطأ لمناطق السّلطة، واستمرت سياسة “الباب الدوّار” في العمل على طبيعتها؛ نفس النشطاء يُعتقلون مرةً عند الجيش ومرةً عند السّلطة.

تُحقق السّلطة بذلك غرضين، الأول أنّها تعلن “حردها” دون كلفةٍ أمنيّة، والثاني أنّها تضغط على الناس (لا على “إسرائيل”) لتدفعهم نحو مطالبتها بالعودة إلى التنسيق.

هذا انتصاركم فكيف هزيمتكم؟

وعلى أرض الواقع، ففي صباح اليوم الذي أعلن فيه حسين الشيخ منتشياً “انتصاره”، اقتحم مستوطنون أراضي صانور جنوب جنين، لإعادة بناء مستوطنة لهم هناك كانت قد أُخليت بفعل مقاومة الانتفاضة الثانية.

خبر صانور ليس يتيماً، فقبل شهر فقط أعلنت “إسرائيل” عن 5 آلاف وحدة استيطانيّة جديدة في الضفة، ليُصبح مجمل الوحدات السكنيّة التي أقرتها هذا العام أكثر من 12 ألف وحدة. وما آلة الهدم من ذلك ببعيد؛ مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، واصلت “إسرائيل” عملها في الجغرافية الأساسيّة المُهددة بالضمّ- الأغوار، فهدمت فيها قريةً كاملةً هي حمصة الفوقا، قيل إنها أكبر عملية تهجير قسري منذ أربع سنوات.

وفي القدس أُعلن قبل يومين، وبالتزامن مع احتفالات السّلطة الفلسطينيّة بـ”يوم الاستقلال”، عن ألفي وحدة استيطانية جديدة في مشروع مستوطنة “جفعات همتوس” التي ستقطع أي تواصل جغرافيّ بين القدس وبيت لحم.

 الإجابة عن سؤال المقال

والآن نجيب عن السؤال المطروح في عنوان المقال: لماذا تبدو السّلطة على هذه الدرجة من الخفّة؟ الجواب بسيط وواضح: لأنّها انتهت فعليّاً؛ لدينا أجهزة أمنيّة تُخفِّفُ عن “إسرائيل” عبء ضبط السّكان، وهذا الثابت الوحيد، ولدينا نخبةٌ فاسدة ترتدي بدلات ولديها مواكب وكأنها في دولة، ولدينا شبكة مصالح وانتفاع شخصيّ مرتبط بها، فيما المشروع السياسي المُسمّى “إقامة دولة” انتهى فعليّاً.

تعرف تلك النخبة ذلك جيّداً، وما تدافع عنه اليوم هو مصالحها الضيّقة حتى لو اضطرت من أجل ذلك أن تُغرِق النّاس من حولها بالفقر والذلّ وانعدام الأمل التام بالمستقبل. ولذلك هي لا تقبل فقط بما يُعرض عليها، بل تقبل كذلك بما لم يُعرض عليها مطلقاً.

كانت فترة “الحرد” هذه احتجاجاً غير جدّي على غيابها عن طاولة التنازل، لا احتجاجاً على التنازل نفسه. وفيما تغيب عن أجندتها مواجهة “إسرائيل”، تتنافس داخل جسم السّلطة المريض أقطابٌ عدّة من رجالات “فتح” على وراثة عجوز المقاطعة؛ كلّهم عينهم على اليوم الذي يرحل فيه، ولا أحد عينه على رحيل الوطن أو حتى “الدولة” التي تقضمها “إسرائيل” يوميّاً.

يُجيب هذا عن سؤال “لماذا عادوا؟”، لكنّه لا يُفسّر السرعة الهائلة التي عادوا بها واستأنفوا الاتصالات مع الاحتلال. في الواقع لا يُمكن فهم ذلك إلا إذا أدركنا ما الذي يعنيه أن تَصِلَ لدرجةٍ من الانهزام والدونية وتنعدم معها قدرتك على تمثيل الكرامة ولو مجرد  تمثيل

 

 

 

مقالات ذات صلة