السنوات الأخيرة في حياة المستعمرة الاستيطانية

جوزيف مسعد

حرير- تتميز السنوات الأخيرة لجميع المستعمرات الاستيطانية بوحشية استعمارية ضارية، بما في ذلك ارتكاب الإبادة الجماعية. يدفع إدراك السلطة الاستعمارية-الاستيطانية لدنو نهايتها؛ المستوطنينَ إلى استخدام الأساليب الأكثر همجية لهزيمة ثورة السكان الأصليين.

ففي كينيا مثلا، تشير التقديرات إلى أن البريطانيين قتلوا ما يصل إلى 100 ألف كيني خلال حرب التحرير الوطني، التي أنهت الحكم الاستعماري ونظام فوقية العرق الأبيض في عام 1963. وقد كلفت حروب التحرير في أنغولا وموزمبيق ضد المستعمرين البرتغاليين ونظام فوقية العرق الأبيض؛ عشرات الآلاف من الضحايا الأفارقة بين عامي 1956 و1976، كما أدت الحروب العنصرية التي رعتها الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، بين عامي 1980 و1988 ضد شعبي البلدين، خشية من أن يؤدي استقلالهما إلى التعجيل بزوال نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، إلى مقتل مليون ونصف مليون نسمة في أنغولا وموزمبيق، اللتين كان يبلغ عدد سكانهما مجتمعين 23 مليون نسمة، فيما أصبح اثنا عشر مليونا آخرون لاجئين.

وفي جنوب أفريقيا نفسها، عندما لم يكن أمام النظام أي خيار سوى البدء في التفاوض مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في عام 1989، لعب نظام الفصل العنصري على وتر تفكيك وحدة السود من خلال الاستمرار في دعم الزعيم الانفصالي اليميني منغوسوثو بوثيليزي، الذي بدأ أتباعه في الاشتباك مع أنصار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وقد تم الكشف عن أن الحكومة كانت قد قدمت دعما ماليا وعسكريا لـ”حزب إنكاثا للحرية” الذي يتزعمه بوِثيليزي، والذي كان أنصاره، بدعم من الشرطة، يهاجمون الناس في البلدات. وبين عامي 1989 و1994، إبان ما كان يسمى بعملية السلام، قُتل ما يقارب 15 ألف أفريقي أسود على يد الشرطة وأجهزة الأمن في جنوب أفريقيا.

وفي حالة إسرائيل، قبل الإبادة الجماعية الإسرائيلية الحالية في غزة، بين أيلول/ سبتمبر 1993 وأيلول/ سبتمبر 2023، أي منذ التوقيع على معاهدة “سلام” أولية، قتلت إسرائيل ما يزيد عن 12 ألف فلسطيني.

ولكن من بين كل هذه الأمثلة، ربما تكون الجزائر المثال الأقرب لما يحدث للفلسطينيين. ففي كانون الثاني/ يناير 1955، تم تعيين وزير المستعمرات الفرنسي السابق وعالم أنثروبولوجيا حضارات الأمريكتين ما قبل كولومبوس، جاك سوستيل (وكان سوستيل بروتستانتي مناهض للفاشية أصله من مدينة مونبلييه)، حاكما عاما للجزائر.

وبينما كانت حكومة إدغار فور الجديدة، التي وصلت إلى السلطة في شباط/ فبراير، مشغولة بقمع النضالات المناهضة للاستعمار في تونس والمغرب، كان سوستيل يدير الجزائر بمفرده. وقد قام بإنشاء أقسام إدارية متخصصة لتقويض جبهة التحرير الوطني الجزائرية وكسْب تأييد الجزائريين. في هذه الأثناء، بدأ الجيش الفرنسي بإخلاء القرى الجزائرية، وتهجير سكان قرى بأكملها بعيدا عن مناطق أنشطة جبهة التحرير الوطني، وأنشأ مليشيات جزائرية مناهضة لجبهة التحرير الوطني، وصور مقاتلي جبهة التحرير الوطني على أنهم “جراد” في حملة دعائية ضخمة، وقدم نفسه على أنه ينقذ الجزائريين من شرور الشيوعية والقومية العربية للرئيس المصري جمال عبد الناصر. ويذكرنا هذا بمحاولة إسرائيل والولايات المتحدة “إنقاذ” الفلسطينيين اليوم من شرور “الإرهاب” والتضامن الإيراني.

وبحلول شهر نيسان/ أبريل 1955، أعلن الفرنسيون حالة الطوارئ في بعض المناطق، التي امتدت تدريجيا إلى الجزائر بأكملها. وأصبح العقاب الجماعي للقرى الجزائرية والتعذيب العشوائي للمعتقلين هو الأمر السائد، حيث دعت الحكومة احتياطيات الجيش من بين المستوطنين للانضمام إلى القتال. وقد شهدت انتفاضة آب/ أغسطس 1955 قيام الجزائريين بمهاجمة المستوطنين في مستعمرة فيليبفيل وكذلك جنود الشرطة والجيش. وقد قاموا بقتل 100 أوروبي، وتم تقطيع الكثير منهم حتى الموت. ورد الجيش والشرطة والمستوطنون الفرنسيون بقتل آلاف الجزائريين وإطلاق النار على العشرات على الفور، وتم اقتياد المئات إلى ملعب فيليبفيل لكرة القدم وإعدامهم، وقد تم قتل ما بين 12 و20 ألف جزائري. وهكذا بدأت مرحلة جديدة من الثورة، حتى إن الجزائريين “المندمجين” والمُشار إليهم بـ”المتطورين” أصيبوا بالرعب من حجم القمع، مما دفعهم للتخلي عن دعمهم لسوستيل.

وبحلول حزيران/ يونيو 1956، كان 450 ألف جندي فرنسي متمركزين في الجزائر. وقد اشتبكوا مع 20 ألفا من الثوار الذين دعمهم 40 ألفا من المساندين، كما قامت جبهة التحرير الوطني بتجنيد ما يقرب من 2000 امرأة جزائرية في صفوفها. وقد أحرق الفرنسيون القرى، واتبعوا سياسة الإعدام بإجراءات موجزة، وقاموا بتعذيب الأسرى من مقاتلي جبهة التحرير الوطني وأولئك الذين اتهموا بالانتساب اليها، كما تم إعدام سجناء جبهة التحرير الوطني بالمقصلة في الجزائر العاصمة. وقد قتلت جبهة التحرير الوطني عشرة مستوطنين للانتقام منهم، وقد قام المستوطنون بدورهم بتفجير الحي الجزائري في الجزائر العاصمة، مما أسفر عن مقتل 70 شخصا. وردت جبهة التحرير الوطني بتفجير مقهيين في المنطقة البيضاء بالجزائر العاصمة، مما أسفر عن مقتل أربعة مستوطنين.

وقد جرت مفاوضات سرية بين الحكومتين الفرنسية والقادة السياسيين لجبهة التحرير الوطني المقيمين في القاهرة، لكن الجيش الفرنسي قرر في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1956 اعتراض طائرة فوق الجزائر، متجهة من المغرب إلى تونس، وعلى متنها القادة السياسيون لجبهة التحرير الوطني، ومن بينهم أحمد بن بلة، متوجهة لأحد هذه الاجتماعات السرية مع الفرنسيين، وتم القبض على قادة جبهة التحرير الوطني الخمسة، ولم يطلق سراحهم حتى عام 1962.

وبعد إلقائها اللوم على مصر على أنها من يدعم ويحرك الثورة في الجزائر، شنت فرنسا غزوا على مصر بمعية البريطانيين والإسرائيليين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1956، الذي انتهى بهزيمة القوى الثلاث وتعزيز شعبية عبد الناصر في جميع أنحاء العالم العربي.

وقد أدرك الطبيب النفسي المارتينيكي الشاب فرانز فانون، الذي انضم إلى جبهة التحرير الوطني في عام 1956، أهمية الدوافع الفرنسية للغزو: “كان المقصود من حملة [حرب] السويس ضرب الثورة الجزائرية في القمة. ومصر المتهمة بتوجيه نضال الشعب الجزائري تعرضت لقصف إجرامي”. في المقابل، دعم الفيلسوفان اليهوديان الألمانيان ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو (اللذان أسسا مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية، وهربا من النازيين إلى الولايات المتحدة في الثلاثينيات، وأصبحا من الصهاينة ومن أنصار الحرب الباردة) غزو مصر، واعتبرا عبد الناصر “زعيما فاشيا” “يتآمر” مع موسكو. وأضافا أنه “لا أحد يجرؤ حتى على الإشارة إلى أن هذه الدول العربية اللصوصية كانت تترصد منذ سنوات فرصة للهجوم على إسرائيل، وذبح اليهود الذين وجدوا ملجأ هناك”.

إذا كانت هذه التبريرات الإمبريالية تذكرنا بكيفية استهداف إيران اليوم من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، باعتبارها القوة التي تقف وراء الثورة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، وكيف أنها تتعرض باستمرار للتهديد والهجوم من إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما العرب، فذلك لأن الخطاب المستخدم هو نفسه.

وأدى حشد المقاومة ضد النظام الاستعماري-الاستيطاني إلى قمع فرنسي واسع النطاق خلال معركة الجزائر العاصمة، التي دارت رحاها في الفترة من كانون الأول/ يناير إلى أيلول/ سبتمبر 1957 وإلى تعذيب المدنيين على نطاق واسع. وبحلول شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1957، نجح القمع الفرنسي والقتل الجماعي، من الجيش والشرطة والمستعمرين، في القبض على وقتل القادة الرئيسين لمقاومة جبهة التحرير الوطني، مما أدى فعليا إلى إنهاء معركة الجزائر.

ولكن على الرغم من هزيمة جبهة التحرير الوطني عسكريا، إلا أن الحركة قد حققت انتصارات دبلوماسية كبرى، بما في ذلك التأييد الكامل للجبهة ولدعوتها إلى الاستقلال من قبل المؤتمر الأفرو-آسيوي، الذي انعقد في القاهرة في كانون الأول/ ديسمبر 1957، كما فعل السيناتور الأمريكي جون كينيدي الذي أيد استقلال الجزائر في وقت سابق في تموز/ يوليو، وهذا بالإضافة إلى تزايد الاحتجاجات وتبني قضية استقلال الجزائر في الأمم المتحدة. ومع ذلك، امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على قرار الجمعية العامة في كانون الأول/ ديسمبر 1957 الذي اعترف بحق الجزائريين في الاستقلال.

ولكن رغم هزيمة جبهة التحرير الوطني في الجزائر العاصمة، استمرت الحرب الفرنسية ضد مقاتليها، وبلغت ذروتها في المذبحة التي ارتكبتها القوات الجوية الفرنسية في بلدة ساقية سيدي يوسف الحدودية التونسية، حيث أدى القصف الفرنسي إلى مقتل 70 مدنيا بينهم عشرات الأطفال في شباط/ فبراير 1958، وهي جريمة حرب أدانها العالم العربي كما أدانتها حكومة الرئيس أيزنهاور.

أصبح شارل ديغول رئيس الوزراء الجديد، وقام بزيارة الجزائر يوم 4 حزيران/ يونيو وسط استقبال حماسي من قبل المستوطنين الذين قال لهم “لقد فهمتكم”، وسرعان ما سيصدر ديغول دستورا جديدا ويصبح بموجبه رئيسا للجمهورية. وقد أثارت مناوراته قلق البعض في قيادة جبهة التحرير الوطني من أنهم إذا خسروا الحرب، فإن “الجزائر ستعاني مصير فلسطين نفسه”.

وفي شهر أيلول/ سبتمبر 1958، أعلنت جبهة التحرير الوطني في القاهرة عن تشكيل حكومة جزائرية مؤقتة للجمهورية الجزائرية الجديدة المزمع تحريرها، التي اعترفت بها الدول العربية ودول العالم الثالث الأخرى على الفور. في هذه الأثناء، قامت المخابرات الفرنسية بحملة من الاغتيالات، وهاجمت أعضاء جبهة التحرير الوطني وتجار الأسلحة الألمان في ألمانيا، وفجرت سفينة في ميناء هامبورغ تحمل أسلحة إلى الجزائر، وهي الهجمات التي غضت حكومة ألمانيا الغربية بقيادة المستشار كونراد أديناور الطرف عنها في أثناء تجسسها على الجزائريين وغيرهم من المسلمين لصالح فرنسا. ففي تشرين الأول/ أكتوبر، تحدث ديغول عن سياسة “سلام الشجعان” (وهي العبارة التي تبناها لاحقا ياسر عرفات)، التي أراد أن يتّبعها في الجزائر عندما أمر بشن هجوم جديد على جبهة التحرير الوطني.

واصل الفرنسيون تجنيد المتعاونين الجزائريين الذين ازداد عددهم من 26 ألفا إلى 60 ألف رجل لتعقب جيش التحرير الوطني التابع لجبهة التحرير الوطني، على غرار مرتزقة السلطة الفلسطينية الذين يتم تدريبهم على يد الأمريكيين والأوروبيين اليوم. وبحلول شهر نيسان/ أبريل 1959، وفي ظل اشتداد القمع الفرنسي وازدياد العدد الهائل من الجنود الفرنسيين والمتعاونين الجزائريين، قُتل نصف مقاتلي جيش التحرير الوطني. وبحلول شهر تشرين الأول/ أكتوبر، “نقل” الفرنسيون مليونين و157 ألف جزائري، وساقوهم إلى 1242 معسكر اعتقال تحت سيطرة الجيش، وغدا أكثر من ربع مليون جزائري لاجئين في تونس والمغرب المجاورتين. وقد تم تنظيم المتعاونين الجزائريين (“الحركيين”) البالغ عددهم 60 ألفا في وحدات لمساعدة الفرنسيين في القبض على مقاتلي جيش التحرير الوطني. إضافة إلى ذلك، تم تنظيم 19 ألف متعاون آخر في مليشيات.

ففي حين دعم الفلاسفة الفرنسيون مثل جان بول سارتر وفرانسيس جونسون استقلال الجزائر أو جبهة التحرير الوطني، كما فعل فرانتز فانون، وقف الفيلسوف اليهودي الجزائري جاك دريدا إلى جانب المستوطنين وعارض استقلال الجزائر.

وقد صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بدعم من دول العالم الثالث، لصالح قرار يدعم حق تقرير مصير الجزائريين، ورفضت إمكانية تقسيم الجزائر التي اقترحها ديغول في العام السابق (وقد صوتت 63 دولة لصالح القرار، وعارضته 8 دول، مع امتناع 27 عن التصويت). وبعد وقت قصير من تصويت الأمم المتحدة، بدأ ديغول المفاوضات مع جبهة التحرير الوطني، وأنشأ المستوطنون الفرنسيون منظمة إرهابية جديدة، أطلقوا عليها اسم منظمة الجيش السري في مدريد في عهد الجنرال فرانكو. وعندما بدأت المحادثات في نيسان/ أبريل 1961 في مدينة إيفيان السويسرية بين جبهة التحرير الوطني والفرنسيين، اغتال مستوطنون إرهابيون رئيس بلدية إيفيان.

وفي الوقت نفسه، في تموز/ يوليو 1961، قصفت القوات الفرنسية مدينة بنزرت الساحلية التونسية، مما أسفر عن مقتل أربعة آلاف مدني تونسي وإصابة آلاف آخرين، مستهدفة موقعا يوجد فيه قاعدة للجيش الفرنسي، التي رفض الفرنسيون إخلاءها. وأدى ذلك إلى المزيد من الإدانة الدولية والمزيد من العزلة لفرنسا، على الرغم من أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على نحو لا يختلف عن حمايتهما الحالية لإسرائيل في الأمم المتحدة، قوضتا قرار الأمم المتحدة الذي دعا إلى إجراء مفاوضات تهدف إلى إخلاء فرنسا لقاعدتها في بنزرت، وقد استمرت الهجمات الإرهابية التي كان يشنها المستوطنون، ولكن الجيش الفرنسي هزمها في النهاية.

وأخيرا، نال الجزائريون استقلالهم في عام 1962 بعد أن قتل الفرنسيون ما يزيد عن 300 ألف شخص منذ عام 1954، وأكثر من مليون جزائري منذ عام 1830، عندما استعمرت فرنسا الجزائر.

ولغاية اليوم، قتل الإسرائيليون أكثر من 40 ألف فلسطيني في الأشهر الستة الماضية، ولا يزال الآلاف منهم مدفونين تحت الأنقاض. لقد أظهرت إسرائيل شهية واستعدادا لقتل عدد أكبر من الفلسطينيين للحفاظ على مستعمرتها-الاستيطانية العنصرية اليهودية.

كما هو الحال مع المستعمرات الاستيطانية البيضاء السابقة، فإن العالم الغربي الذي يحمل أيديولوجيا تفوق العرق الأبيض، إن كان في أوروبا أو في مستعمراتها الاستيطانية البيضاء الباقية، يدعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل كما كان يدعم الإبادات العرقية الاستعمارية في أفريقيا منذ الحرب العالمية الثانية، وهو أيضا حال العديد من النقاد والمفكرين الغربيين، بما فيهم يورغن هابرماس، وريث مدرسة فرانكفورت. أما بالنسبة لعدد الفلسطينيين الذين سيساعدون إسرائيل على قتلهم في سنواتها الأخيرة، قبل أن يتم تفكيكها واستبدالها بدولة غير عنصرية يتم القضاء على الإرث الاستعماري والعنصري فيها، فهذا أمر لا يعرفه إلا المخططون الاستراتيجيون في البيت الأبيض.

 

مقالات ذات صلة