عن صعود اليمين القومي المتطرّف في تركيا

عمر كوش

حرير- أظهرت الانتخابات العامة التركية، التي أجريت في الشهر الماضي (مايو/ أيار)، صعود قوى وأحزاب اليمين القومي المتطرّف، الكاره للأجانب، وخصوصا اللاجئين السوريين، حيث حصل مرشّحها الرئاسي الخاسر سنان أوغان على 5.17% من أصوات الناخبين الأتراك، لكن كتلتها التصويتية الحقيقية لا تنحصر في هذه النسبة فقط، بل في الأصوات التي ذهبت إلى الحزبين اليمينيين القوميين الآخرين، حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهجلي، الذي حصل على نسبة 10% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية (50 مقعداً)، والحزب الجيد بزعامة ميرال أكشنر، الذي حصل على 9.6% من الأصوات (43 مقعداً)، فضلاً عن أصوات أخرى توزّعت على الأحزاب الأخرى التي تضم قوى يمينيةً وقوميةً في تركيبتها. وربما بعملية حسابية بسيطة يمكن القول إن نسبة أصوات اليمين القومي التركي تتخطى 25%.

قد يكون الأمر، في جانب منه، مرتبطا بصعود قوى اليمين القومي المتطرّف في أنحاء عديدة من العالم، وذلك مع صعود موجات كره الآخر، التي تُحمّله وزر جميع الأزمات التي تعصف في دول عديدة، لكن مسألة اللاجئين السوريين في تركيا، تحت ضغط قوى اليمين، تحوّلت إلى الورقة الأقوى في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ومثلت القضية الوحيدة المهمّة في البازار السياسي، الذي فتحه كلا المرشّحين، الرئيس رجب طيب أردوغان وكمال كلجدار أغلو، مع المرشّح الذي خسر السباق الانتخابي في جولته الأولى سنان أوغان، ومعه أوميت أوزداع زعيم حزب الظفر اليميني القومي العنصري، وذلك لكسب أصوات اليمين المتطرّف.

أرادت القوى والأحزاب السياسية التركية، وعن قصد مسبق ودراية، تحميل السوريين، الذين هربوا من جحيم استبداد نظام بشّار الأسد، مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي تعصف بتركيا منذ سنواتٍ عديدة، وما تفرّع عنها من ازدياد نسب التضخّم، ومن ارتفاع أسعار السلع الغذائية والعقارات والإيجارات، وارتفاع معدّلات البطالة، وانهيار القيمة الشرائية لليرة التركية وسوى ذلك، مع أنهم مثلهم مثل الفقراء الأتراك يعانون الأمرّين في تدبير حياتهم المعيشية، ولم يبنوا المساكن المخالفة للمواصفات، التي انهارت على أثر الزلزاليْن المدمّرين اللذين ضربا الجنوب التركي (ومعه شمالي سورية) في 6 فبراير/ شباط الماضي، وليسوا هم من يعرقل محاولات الإنعاش والتعافي في المناطق المنكوبة.

تخلّى مرشّح المعارضة الخاسر كلجدار أوغلو عن ليبراليته وعلمانيّته، وعن الربيع القادم الذي وعد به، ولجأ إلى تبنّي خطاب اليمين العنصري، القائم على كراهية الأجانب، أملاً منه في جذب أصوات حامليه، من أجل الفوز في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ثم بالغ في تشدّده حيال اللاجئين السوريين، متوعداً بترحيلهم القسري الفوري، كما بالغ في تقدير أعدادهم، زاعماً أنهم يبلغون عشرة ملايين، وأن أردوغان ينوي إدخال “عشرة ملايين” آخرين إلى تركيا، مع التحذير من أن المزيد منهم في الطريق. بالمقابل، حافظ أردوغان على خطاب أخلاقي ومعتدل، لكنه يشير صراحة إلى ترحيل اللاجئين السوريين، وفق خطّةٍ تقوم على “العودة الطوعية” التي جرى ترحيل 600 ألف سوري وفقها، وعلى ترحيل مليون منهم إلى منازل تُبنى لهم في الشمال السوري، إلى جانب التخطيط لإعادة قسم آخر منهم لمناطق سيطرة نظام الأسد عبر بوابة التقارب معه. لكن خطابه الأخلاقي لم يمنعه من عقد تفاهمٍ مع المرشّح القومي اليميني المتطرّف سنان أوغان، الذي ليس لديه سوى التركيز على ترحيل اللاجئين السوريين، وهو الذي يتحدر من عائلة أذرية مهاجرة.

لم ينفع كلجدار أوغلو تعهّده بشنّ حملات تطهير اللاجئين وترحيلهم، كما لم ينفعه تبنّيه خطاباً عنصرياً بشعاً، فظهر بمظهر الانتهازي، الفاقد للنزاهة والمبادئ، لكن الخطير في الأمر أن كلاً من أردوغان وكلجدار أوغلو أقاما تفاهماتٍ مع قوى اليمين القومي المتطرّف ومجموعاته، والأخطر من ذلك أن يحصل سنان أوغان، أو تحالفه، على مناصب حكومية بعد فوز أردوغان بالرئاسة، على الرغم من تأكيد الأخير عدم عقده أي صفقةٍ معه، لكن عالم السياسة حافل بالمقايضات والصفقات، وذلك في ظل الاعتقاد السائد لدى الساسة بأنهم قادرون على تسخير نيران اليمين القومي المتطرّف لمصلحتهم الشخصية والحزبية، قبل أن يقضي لهيبها عليهم في نهاية المطاف.

قد يكون مفهوماً ظهور اليمين القومي المتطرّف في عالم السياسة التركية، لكن هذا الصعود كان قوياً بشكل لافت في السنوات الأخيرة، كونه لا يحمل سوى ورقة كره الأجانب، وذلك بعدما أغرق قادته معظم وسائل الإعلام التركية بالرسائل المعادية للأجانب، وخصوصا اللاجئين السوريين، الأمر الذي وجد استجابة كبيرة في تركيا، وكان له الأثر الأكبر على الشارع التركي، الذي بات يشهد حملات كراهيةٍ متواترة ضدّهم، بالتزامن مع تردّي الأوضاع الاقتصادية المعيشية بسبب السياسات الاقتصادية المتبعة والفاشلة بشكل عام. غير أن المناكفات السياسية بين الأحزاب التركية حول اللاجئين السوريين، في غياب برامج انتخابية حقيقية للأحزاب التركية، ساهمت في تقوية اليمين القومي المتطرّف، كونها كانت محمولةً على حالة الاستقطاب الشديد الذي تعيشه تركيا، لذلك لجأ السياسيون إلى تبنّي خطاب يميني قومي شعبوي، جرى توظيفه من أجل تحقيق مكاسب سياسية، عبر تحويل اللاجئين السوريين إلى مادّة للدعاية الانتخابية وللمناكفات السياسية، ووجد صداه في تصاعد موجات الخطاب العنصري المعادية لهم، وذلك في ظل عدم وجود وضع قانوني يحميهم، ويؤمّن لهم الاستقرار والتكيف مع محيطهم التركي.

يضاف إلى ما سبق البعد الثقافي المشحون بالتاريخ، حيث سادت في الثقافة السياسية التركية نزعات تقوّي التعصب القومي المتطرّف حيال الأجنبي، الشرقي على وجه الخصوص، مقابل مركّب نقص حيال الأجنبي الأوروبي، أو الغربي بشكل عام، وانعكس ذلك في الثقافة التركية، وتلقّفتها أغلب وسائل الإعلام التركية، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلت مسألة وجود اللاجئين مادتها الأولى، تناغماً مع تحوّلها إلى الموضوع البارز في خطابات وحملات معظم قادة أحزاب اليمين القومي المتطرّف، الذين أصرّوا على تجريدها من جانبها الإنساني، وإقحامها في المعترك السياسي، وبات شغلهم الشاغل ترحيل اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وذلك بعدما حمّلوهم مسؤولية أزمات تركيا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل ووصفهم بعض قادتها المتشددين بالمتسوّلين، والطفيليين، والهاربين من بلادهم، وفاقدي الشرف.

مقالات ذات صلة