
عدالة أمريكا: تجميل الاستعمار وفرض الوصاية على غزة
لطفي العبيدي
حرير- لم يكن الخداع وتكرار الوهم جديدا، جذوره تعود إلى ما قبل حرب غزة، وتمتدّ إلى ما يتجاوز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ولعل «طوفان الأقصى» جاء ليُذكّر العالم بأنّ إسرائيل لم تقُم من العدم، وإنّما قامت على طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين وتطهيرهم عرقيا، فيما عُرف بالنكبة، وبأنّ الوضع القائم في الشرق الأوسط لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، حيث تُحاصر الضحية ويُجازى القاتل. الأكثر إرباكا من الأخطاء أو تكرارها هو ترديد المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين الأكاذيب حتى بعد إدراكهم أنّها مكشوفة. لقد تحوّل ذلك إلى عادة على مدى عقود، حيث أوهمت الولايات المتحدة العالم بموقفها من الصراع، متظاهرة بأنّها وسيط، بينما هي في الحقيقة طرف منحاز لإسرائيل..
«ما لا يُحلّ بالقوة، يُحلّ بمزيد من القوة». اليمين الإسرائيلي يتبنّى هذا النموذج اليوم في غزة كعقيدة، ويستخدمه أيضا كذريعة على مدار عامين من حرب الإبادة. وعندما يُسأل الوزراء في حكومة نتنياهو المتطرفة: لماذا فشل عامان من الحرب في تدمير حماس، أو استعادة الرهائن؟ يكون الجواب الدائم أنّ الحرب لم تذهب بعيدا بما يكفي. فيطالبون بفتح أبواب الجحيم، ووقف المساعدات الإنسانية، واحتلال القطاع، وتشجيع التهجير. لا يمكن لهؤلاء أن يستوعبوا أنّ الفكرة ليست في عقد «مسابقة جثث»، بل في تأكيد أنّ الأمن والسلام لا يمكن اعتبارهما حكرا على طرف واحد.
بعد أسبوعين على التوقيع المزعوم لـ»الخطة التاريخية» التي قدّمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والمكوّنة من 20 نقطة في شرم الشيخ. بدأت المراحل الأولى من الاتفاق تبدو وكأنّها تنهار. وبينما يحاول ترامب وفريقه الظهور أنّهم ملتزمون بإنجاح خطة السلام، من خلال إرسال مسؤولين رفيعي المستوى إلى إسرائيل في محاولة واضحة لإبقاء نتنياهو ضمن حدود الاتفاق، يُفترض أن يكون الضامنون للاتفاق ملتزمين بمحاسبة الأطراف التي تنتهك الاتفاق.
المراوغات الإسرائيلية واضحة، وفريق ترامب يحاول كبحها، لكن ذلك لا يعني أن ترامب وإدارته ينظرون إلى غزة أو إلى الفلسطينيين عامة، أو إلى دولة فلسطين المستقبلية من منظور إنساني بالأساس، بل إنّ الإدارة الأمريكية ملتزمة بالحفاظ على مصداقيتها الدبلوماسية لا غير، بعد أن أنفقت رأس مال سياسي هائل على المستوى العالمي، لكسب الدعم لهذه الخطة. هذا الواقع هو سبب تعرّض وقف إطلاق النار الحالي لخطر الانهيار. قد يتطلّب هذا الدفع إبداء استياء واضح تجاه نتنياهو ودولته، فهل فريق ترامب مستعد لتجاوز خطوط لم يتجاوزها أي رئيس جمهوري سابق فيما يتعلق بإسرائيل؟ وهل هو مستعد، للمخاطرة بإنهاء دعم قاعدته كبار المموّلين المؤيدين لإسرائيل؟ يظل ترامب واحدا من أكثر الرؤساء الأمريكيين دعما لإسرائيل، إذ يرأس قاعدة سياسية قوية مؤيدة لها. وهذا العامل وحده ينبئ بسوء مستقبل صفقة السلام الخاصة به. ببساطة، لكي ينجح هذا المخطط، سيتعين على إدارة ترامب، حسب «ذا ناشيونال أنترست»، الخروج من «منطقة الراحة الخاصة بها» من خلال التصرف كشريك رئيسي حقيقي في علاقتها مع تل أبيب.
سجلّهم البائس في انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم في حق الشعوب، يؤكد الوضع غير الصحّي داخل المؤسسات السياسية الأمريكية المساندة بشكل مطلق لكيان الاستيطان والاحتلال، ويمنع كُلاًّ من الإدارات الديمقراطية والجمهورية من السعي خلف أفضل المواقف. ويُضيف مشكلةً أخرى إلى التضليل المتنامي الذّي يعتري الخطاب الأمريكي العام. فحوى الأفكار وطبيعة المبادئ الحاكمة للسياسة الأمريكية لم تختلف، ومن الجيّد أن يكشف دونالد ترامب عن حقيقة الوجه الأمريكي، عن التكبّر الإمبريالي الذي حوّل سياسات واشنطن نحو موقف أكثر تطرّفا تجاه الشرق الأوسط. ونراهم كيف يدفعون لبنان نحو الفوضى، هذا البلد الذي عانى الويلات بسبب موقفه من دعم المقاومة في فلسطين. ويرغبون في نزع سلاح حزب الله، لكي يُفتح الطريق أمام إسرائيل. تصعيد الضغط على المقاومة في لبنان كما في فلسطين، يغذّي الحجج نفسها التي يقوم عليها دعمها، وأبرزها مقاومة العدوان والاحتلال الأجنبي. وهذا الدعم لا يمكن شطبه بالرغبات الإسرائيلية، ولا تجاهله بالإنكار الأمريكي. وإن ظهر المشهد محمّلاً بخسائر فادحة على المستويين السيادي والإنساني، فإنّه يؤكد أن الحل الجذري لا يكمن في مغامرات عسكرية، بل في إنهاء الاحتلال بجميع أشكاله.
الاحتلال الإسرائيلي هو من يواصل خرق القوانين الدولية بلا رادع، ولبنان يجد نفسه في قلب معركة لم يخترها، بل فُرضت عليه نتيجة حسابات سياسية وعسكرية تتجاوز مساحته الجغرافية نحو الشرق الأوسط ككل. لقد اتّضح أنّ الوساطات الأمريكية التي أفضت إلى هدنة في نوفمبر الماضي، لم تكن سوى غطاء لمواصلة العدوان عبر غارات شبه يومية على مواقع حزب الله في لبنان.
تم اضعاف المقاومة في غزة بفعل حرب همجية أمريكية إسرائيلية، وبدعم من دول غربية كثيرة، مع ذلك لم يستطيعوا أن يجعلوها تنحني، بل رضخوا إلى شروط التبادل. حماس مازالت تسيطر على معظم الأراضي وتحاول ترسيخ هذه السلطة. وبموجب شروط وقف إطلاق النار، من المفترض أن تنسحب إسرائيل تدريجيا من غزة، لكن قواتها لا تزال تحتل أجزاء رئيسية منها. بينما يريد زعماء إسرائيل اليمينيون، أن توسّع قواتهم هذه السيطرة، حتى لو كان ذلك يعني استئناف الحرب. من بين هؤلاء وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش الذي صرّح بأن على بلاده رفض أي صفقة تطبيع مع السعودية، إذا كانت مشروطة بقيام دولة فلسطينية. قالها باستهزاء «إذا قالت لنا السعودية إن التطبيع سيكون مقابل دولة فلسطينية، فشكرا لكم، لا نريد. استمرّوا في ركوب جمالكم في صحراء السعودية، وسنواصل نحن تطوير دولتنا بكل ما نعرفه من قدرات». إلى جانب القصف الإسرائيلي المستمر للقطاع، انتهكت إسرائيل أيضا متطلبات الاتفاق المتعلّقة بالمساعدات الإنسانية، كما أنها تواصل إبقاء معظم المعابر إلى غزة مغلقة، وتُقيّد عمليات الإجلاء الطبي. هذا يعني أن انهيار وقف إطلاق النار بات وشيكا بالفعل، كما أشارت إلى ذلك صحف عبرية وأمريكية على غرار «نيويورك تايم» و»هآرتس». السماح لنتنياهو بانتهاك وقف إطلاق النار، وهي خطوة قد يكون أكثر من مستعد للقيام بها حتى خلال المرحلة الأولى من خطة السلام، سيكون إحراجا شديدا للإدارة الأمريكية. وأولئك الذين يفهمون سياسة ترامب وطريقة تفكيره يعلمون أن هذه النتيجة غير مقبولة إطلاقاً بالنسبة إليه. لقد أوهمت الولايات المتحدة الأمريكية الجميع في المنطقة، حين صاغت ما سُمّي «عملية السلام»، التي أسهمت أكثر في ترسيخ الوضع القائم بدلا من تغييره. وأوهمت كثيرين حين ادّعت أن سياساتها الأوسع في الشرق الأوسط تهدف إلى تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأوهمت العالم حين اعتبرت إخفاقاتها نجاحات، أمام كل هذا، بات النشاط السياسي واجبا، خاصة على المستوى الدولي وبكل الطرق الممكنة، خاصة دعم مؤسسات العدالة الدولية كي تقوم بمهامها، وبذل كل ما من شأنه أن يُجبر الإسرائيليّين على إعادة النظر في مسارهم الحالي من أجل تحقيق سلام حقيقي ودائم يقرّ بالحقوق الفلسطينية المشروعة.
 
					 
					 
					


