قانون الإعدام الإسرائيلي: تشريع صاغه الرصاص وسبقته قذائف الطائرات

جواد بولس

حرير- مرة أخرى تشهد الكنيست نقاشات حول مطالبة عدد من أعضائها المشرّعين إقرار تعديل على القانون الجنائي الإسرائيلي، يقضي بلزوم إنزال عقوبة الإعدام بحق كل «إرهابي» يدان بجريمة قتل نفذها «بدافع عنصري وبهدف المس بدولة إسرائيل وببعث الشعب اليهودي في أرضه». ويبرّر مؤيدو تعديل القانون بضرورة إتاحتها فورا كعقوبة بحق عناصر كتيبة النخبة المحتجزين في المعسكرات الإسرائيلية، وكأداة من شأنها أن تستأصل الإرهاب الفلسطيني من جذوره، وأن تتحول إلى وازع رادع لجميع الفلسطينيين.

لقد أشغلت عقوبة الإعدام، كخيار عقابي يجب المحافظة عليه ضمن منظومة التشريعات الإسرائيلية، حكومات إسرائيل منذ تأسيسها؛ وقد خضعت هذه المسألة، قبل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967 وبعده، إلى عدة تعديلات تمّت على مراحل عديدة وأفضت، في النهاية، إلى إبقاء هذه العقوبة في بعض التشريعات الخاصة بالمجرمين النازيين، وضمن القوانين العسكرية وفي بعض مخالفات خيانة الدولة وأمنها.

يعرف جميع المتخصصين بالقانون الجنائي والعسكري، أن عقوبة الإعدام قائمة في التشريعات الموجودة، إلا أنها لم تستنفذ ضد المقاومين الفلسطينيين، بسبب قرار إسرائيلي قديم جديد، عبّرت عنه مؤخرا المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف -ميارا، حين عارضت القانون مشدّدة على أن عقوبة الإعدام، لن تكون وسيلة رادعة في حالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يتسلح معارضو عقوبة الإعدام، بشكل عام، بعدة حجج وذرائع، منها: قدسية الحياة، واحتمالات وقوع الخطأ، ومكانة الإنسان وحقه المطلق في الحياة، ومعارضة المؤسسات الحقوقية الدولية والمنظمات الإنسانية لمثل هذه القوانين؛ ولأنه قانون عنصري بامتياز؛ فالجميع يعرفون أن القانون، في حالة إقراره في الكنيست، سيفعّل ضد الفلسطينيين فقط، ولن يفعّل بحق إرهابيين، أو جناة يهود يقترفون جرائم القتل ضد الفلسطينيين على خلفيات قومية وعنصرية، كما يجري في الآونة الأخيرة في الضفة الغربية أو داخل إسرائيل. لقد كان رؤساء الأجهزة الأمنية والمستشارون القانونيون والسياسيّون، المطلعون على تقارير تلك الأجهزة ودراساتهم وخلاصاتهم المهنية، في طليعة من عارضوا استنفاذ عقوبة الإعدام بحق المقاومين الفلسطينيين، وقد اطّلع معظم المعارضين على خلاصات أهم الدراسات التي أجريت في حالات الصراعات القومية والإثنية والدينية المشابهة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي نفى معدّوها دور عقوبة الإعدام في تعزيز دوافع الردع بين المقاومين، بل أظهرت تلك الدراسات أن اللجوء إلى عقوبة الإعدام سيزيد من صلابة أولئك المقاومين، وفي إصرارهم واستعدادهم للمقاومة حتى آخر أنفاسهم! كما أفادت تلك الدراسات على أن من تنفذ بحقهم عقوبة الإعدام يتحولون في نظر مجتمعاتهم إلى شهداء وأبطال خالدين، لا إلى مجرد جثث تتهادى من على أعواد المشانق. ستصبح مشاهد إعداماتهم حوافز للمخيلات الشعبية، وسيتحوّلون إلى رموز تعلّق صورهم تمائم على صدور الناس، وتردد أسماءهم الأجيال في أهازيج يزخر بها الموروث الشعبي الفلسطيني.

لقد أصابت المستشارة القانونية كبد الحقيقة حين تطرقت إلى مسألة استحالة ردع الفلسطينيين بمواجهتهم بعقوبة الإعدام؛ فهي، ربما دون أن تقصد، أشارت إلى حقيقة صمود الفلسطينيين كل هذه العقود، رغم المؤامرات عليهم، ورغم دموية الاحتلال وقمعه وممارساته، التي لم تعرف حدودا؛ ويكفي أن نستعيد مشاهد الجرائم الأخيرة التي اقترفتها وتقترفها قطعان المستوطنين وعناصر الجيش، ووثقتها الكاميرات وشاهدها العالم. يعتقد أصحاب قانون الإعدام، أن قانونهم سيمحي أسطورة المناضل الفلسطيني، الذي لا يخشى أعواد المشانق. أرى في عيونهم الفرح وأتذكر وجوه مئات الأسرى الذين دافعتُ عنهم حين كانوا يهزأون ممن يهدّدهم بالإعدام. لن تتسع هذه العجالة لسرد تلك الحكايات، لكنّني على يقين بأن مئات المدّعين والقضاة والمحققين الإسرائيليين يتذكرون مثلنا، نحن المحامين، كيف كان يقف بعض الأسرى أمام القضاة ويقولون لنا باحترام ولهم، دون تردد أو وجل: «دع عنك استاذي، فأنا لا أعترف بهذه المحكمة. وليحكموا عليّ بما أرادوا» ! وحين كان القاضي يخاطب الأسير/المتهم بقصد إخافته وإبقائه تحت «جناح المحكمة» وينبهه إلى أن عقوبته قد تكون الإعدام، كان الأسير يضحك بعزة ويباشر القاضي، دون أن ينتظر من محاميه نصيحة أو رأيا ويقول له: «ما أغباكم، ما أصلفكم. أوَتحسبون أننا نخشى أحكامكم. نحن في وطننا نقتل على طريقتكم كل يوم ألف مرة، واليوم أجيئكم كي أموت على طريقتي أنا. هي ميتة واحدة، أختارها أنا، وبعدها سأحيا». وكم من مرة سمعوا هذا الكلام؛ بيد أن من قدّوا من الشر، هكذا يبدو، على الانتقام يحيون وبالشر يتعمدون! إسرائيل الحالية ليست بحاجة لتشريع قانون الإعدام كي تضمن ردع الفلسطينيين وتئد جذوة نضالهم ضد الاحتلال؛ فكتائب من جيشها وسوائب مستوطنيها ينفذون إعداماتهم دون حسيب أو رقيب، ويشيعون إرهابهم بالنار وبالبارود. إسرائيل الحالية تسعى لإقرار هذا القانون استكمالا لعقيدتها الجديدة، ولما كان يردده ملهمهم مئير كهانا «بأن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت».

هذا ما يعرفه أصحاب الأرض والمكان، وهو ما عبرت عنه بيانات معظم المعقبين الفلسطينيين؛ ففي بيان مشترك «لهيئة شؤون الأسرى» و»نادي الأسير الفلسطيني» قرأنا «أن منظومة الاحتلال الإسرائيلي، مارست على مدار عقود طويلة سياسات إعدام بطيء بحق مئات الأسرى داخل السجون، فيما شهدت هذه السياسات تصعيدا غير مسبوق منذ الحرب على غزة لتجعل هذه المرحلة الراهنة الأكثر دموية في تاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة». وأضاف البيان «إن مصادقة ما تسمى «بلجنة الأمن القومي في الكنيست الإسرائيلي» على قانون الإعدام بالقراءة التمهيدية، لم يعد أمرا مفاجئا، في ظل حالة التوحش غير المسبوقة. وعلى الرغم من وضوح موقف القانون الدولي الذي يحرم عقوبة الإعدام، يؤكد إصرار الاحتلال على تقنين هذه الجريمة وإضفاء صبغة الشرعية عليها، على أن دولة الاحتلال تتصرف باعتبارها فوق القانون وعلى عجز المجتمع الدولي عن محاسبتها». لقد دافعتُ عن آلاف الأسرى الفلسطينيين، وكنت شاهدا على مئات ممن عاملتهم إسرائيل، القديمة والجديدة، خلال فترات أسرهم، كمشاريع شهادة؛ ولا أعرف إذا سمع أعضاء الكنيست، الذين صوّتوا لصالح قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين بأسماء تلك القوافل التي أقسم حُداتها ألا يرضوا بحياة الذل والقهر تحت نير الاحتلال؛ فبعضهم ناضلوا ورحلوا على طريق الفَراش وطريقته، وآخرون ولدوا وما زالوا يتعاقبون كالصدى وهو ينثال من «لام» الأمل.

هكذا كان طيلة عقود كنت فيها شاهدا على من يصنع الموت من جهة ومن يعشقون الحياة من جهة أخرى؛ فهل تغيرت المقادير في «زمن الفضيحة» الحالي والذي فيه «تطبخ» بعض الأمم «أزهارها بدم الفلسطينيين». أخشى من الحقيقة، لكنني على يقين بأن من يحلم بالإعدامات كحل لمشاكله وكمفتاح لمستقبله، لم ولا يريد أن يتعلم من عبر التاريخ، حتى ولا من تاريخه هو، أو إن شئتم من تاريخ الطغاة ومصائرهم.

مقالات ذات صلة