«المؤتمر الصهيوني العالمي»: هرتزل ما بعد الإبادة

صبحي حديدي

حرير- تغيّب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو عن «المؤتمر الصهيوني العالمي»، الذي يواصل الانعقاد هذه الأيام في القدس المحتلة، ولم تُعلن أسباب رسمية لهذا الغياب عن محفل يعدّه صهاينة العالم بمثابة «برلمان» اليهود في الشتات؛ وإنْ كانت بعض الترجيحات الإعلامية الإسرائيلية قد عزت مقاطعة نتنياهو إلى احتمال ارتفاع هتافات ضدّه داخل قاعة المؤتمر أو خلال إلقاء خطبته. لكنّ آل نتنياهو، كما يجوز القول، حضروا بقوّة مع ذلك، من خلال قرار حزب الليكود ترشيح يائير نتنياهو لمنصب رئيس قسم الدعاية والإعلام في المنظمة الصهيونية العالمية؛ الأمر الذي هدد بانفراط عقد التفاهمات الداخلية حول المناصب والتعيينات في مختلف أجهزة المؤتمر ومؤسساته.

ومن المعروف أنّ مدينة بازل السويسرية كانت قد شهدت، بين 29 ــ 31 آب (أغسطس) 1897، انعقاد المؤتمر الذي أسّس المنظمة عملياً، وفيه طُرح مشروع تيودور هرتزل واضع الأساس لـ«دولة اليهود» حسب رطانة تلك الحقبة؛ كما سجّل ولادة إطار تنظيمي موحّد للمنظمات الصهيونية. وبعد أن كان قد قلّب جغرافية «الوطن القومي لليهود» بين فلسطين أو الأرجنتين أو أوغندا، وتنافُر تيارات التبرّع لمشاريعه من جانب أغنياء يهود العالم، استقرّ هرتزل على فكرة تشجيع الهجرات اليهودية إلى فلسطين، والاستيطان فيها، والشروع في خطوات الضغط والتآمر والصفقات الأبكر لاستعمار البلد وتنفيذ «ترانسفير» الفلسطينيين.

دورات المؤتمر سوف تتعاقب، خاصة بعد صدور وعد بلفور المشؤوم وقرار التقسيم وإنشاء الكيان الصهيوني، وتلك سيرورة توجّب أن تشهد ولادة التيارات الصهيونية المختلفة وائتلافاتها أو خلافاتها حول استقطاب أوّل يوصف بالعلمانية على نحو فضفاض ومضلل، واستقطاب ثان جمع الميليشيات العسكرية الإرهابية إلى جانب الأحزاب المتدينة اليمينية منها أو المتطرفة والفاشية. لكنّ المؤتمر الـ39، المنعقد حالياً في القدس المحتلة، يمكن تصنيفه في طور/ أطوار الصهيونية ما بعد حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزّة، من جانب أوّل؛ ولعله، من جانب ثانٍ، الأوّل الذي تبدو فيه الصهيونية العالمية على حال بيّنة من العزلة الدولية، ومقادير مختلفة من الرفض والاستنكار أو حتى البغضاء، في مجتمعات غربية كانت، هي ذاتها، أفضل حاضنة وخير نصير لولادات الصهيونية.

وكان مؤتمر بازل التأسيسي قد وضع على عاتق الحركة الصهيونية تنفيذ أهداف ستراتيجية كبرى، عدا عن الهدف الأكبر في تأسيس «وطن قومي» لليهود؛ مثل تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولمّ شمل يهود العالم من حول الفكرة الصهيونية، وإطلاق المنظمة الصهيونية العالمية، ومعها الوكالة اليهودية التي سوف تتولى جمع التبرعات وإدارة الأموال وتنظيم الهجرة وإقامة المستعمرات. وليس تعيين نتنياهو الابن، بما يمثله من فساد وسلوك عابث وعربدة في شطآن ميامي وحظوة وامتيازات، بمثابة المعطى الراهن الأوّل حول انقلاب المنظمة الصهيونية إلى مرآب خلفي لشخص نتنياهو الأب وأجهزة حزب الليكود. المعطيات الأخرى لن تقتصر على الهجرة العكسية، وهيمنة أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترش، والوضع العالق حول تجنيد الحريديم، والسعي إلى إبقاء المحكمة العليا في سلال مهملات الكيان الصهيوني، والتملص من تشكيل لجنة للتحقيق في وقائع وملابسات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023…

هذا فضلاً عن المشكلات المستعصية التي باتت الجاليات اليهودية في الغرب، وفي الولايات المتحدة تحديداً، تجابهها على نحو لم تعد تسويات الماضي التلفيقية كفيلة بإخراسها أو حتى ترقيعها؛ وأحدثها عهداً أنّ مندوبي أمريكا إلى مؤتمر القدس المحتلة الراهن (155 من أصل 543) مطعونٌ في صحة انتخابهم أمام المحاكم، والكثير منهم فاز بعضوية المؤتمر نتيجة بطلان وثائق الترشيح أو تزوير الانتخابات. مندوبون من دول أوروبية أخرى (21 من فرنسا، 19 من المملكة المتحدة، ومثلهم من كندا، و126 من مناطق أخرى) أتوا إلى المؤتمر حاملين أثقال اعتراف حكومات بلدانهم بالدولة الفلسطينية، أو قدموا من مجتمعات مدنية شهدت وتشهد تظاهرات تأييد للفلسطينيين وتضامن مع قطاع غزّة واستنكار لجرائم الإبادة الجماعية الإسرائيلية.

هذه، ضمن اعتبارات أخرى عديدة، تعيد دورة التاريخ إلى النقاشات الصهيونية ـ الصهيونية التي صاحبت، سنة 1997، احتفالات صهاينة العالم بالذكرى المئوية الأولى لانعقاد مؤتمر بال؛ حين دارت سجالات نوستالجية حول حلم هرتزل الذي تحقّق (أي «الدولة اليهودية») ولكنها في المضامين الأعمق تشاجرت بحدّة حول الواقع اليهودي الفقهي للدولة/ الحلم، أو حول معنى ما قبل وما بعد الصهيونية. جرى كلّ ذلك الاحتقان داخل البيت الصهيوني العريض، الذي ساد الظنّ طويلاً أنه واحد موحّد متراصّ، فاتضح أنه بيوت أمريكية وفرنسية وبريطانية، بولونية وروسية وأوكرانية، فالاشية ويمنية، أشكنازية أو سفاردية، أصولية متدينة متعصبة فاشية عنصرية أو أو أخرى يهودية أو نصف ـ يهودية…

واحدة من عجائب تلك الحال، وهي التي تتكرر اليوم في القدس المحتلة، كانت غياب صاحب الحلم الهرتزلي نفسه، عن مئوية تزعم أنها تحتفي به وتستلهم أفكاره. وخارج المصنفات التاريخية ذات الصلة بوقائع انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، ليس هرتزل 1997 أو 2025 شخصية إجماع تستمدّ مصداقيتها وصلاحيتها للحاضر، من واقع الحال في الحاضر. وكان من غير الطبيعي أن يدور النقاش حول فكرة الدولة اليهودية، بما يوحي أن المطلوب الآن هو ترقيتها (أي الهبوط بها أكثر فأكثر إلى حضيض إبادي وفاشي وعنصري) إلى حلم جديد يُراد له أن يجدد الوجدان اليهودي المنشطر… وذلك بعد 128 سنة أعقبت انطلاق فكرة الدولة اليهودية، من حلم أوّل راود صحافياً نمساوياً يهودياً مغموراً يدعى تيودور هرتزل، ثم تجسّد بعدئذ في كتيّب صغير حمل اسم الفكرة: «الدولة اليهودية».

وبهذا المعنى فإنّ الوجدان اليهودي خلال أطوار مسمّى «ما بعد الصهيونية» هو انخرط في حوار متعدّد مع الذات، لإعادة الدولة الصهيونية إلى ما قبل الصهيونية، أي إلى حلم واحد طويل مستديم، لا يصحو منه اليهودي إلا لكي يعاقب العالم الخارجي غير اليهودي، عالم الـ «غوييم» بعبارة فقهية أدقّ، على الآثام المقترفة بحقّ الحلم. وإذا كان مطلوباً من العالم أن يسهر على أمن اليهودي، وبالأحرى اليهودي/ الصهيوني أوّلاً أو حتى حصرياً، وهو يغرق في الحلم المستديم؛ فإنّ المطلوب في المقام الثاني أن يقف العالم مكتوف الأيدي تماماً أمام انقلاب الحلم ذاته إلى كابوس استعماري استيطاني وفاشي عنصري وإبادي، عند الشعب ذاته صاحب الحق الأصلي في أرض الحلم، وانقلاب الغيتو إلى كيبوتز، والحالم/ الضحية إلى حالم/ جلاّد.

وإذْ شهد اليوم الافتتاحي لـ«برلمان الشعب اليهودي» نقاشات ساخنة حول اليمين واليسار، العلماني والمتدين، وما إلى ذلك من مسميات خاوية الوفاض من المدلول الفعلي على أرض الواقع… فإنّ الجوهر بدا مفرّغاً، على نحو شبه مطلق، من حسّ التداول الديمقراطي البرلماني. تكرر ذلك المشهد بصفة خاصة حين سُمعت في قاعة المؤتمر تلك الأصوات ذاتها التي طالبت بقصف أطفال غزّة بقنبلة نووية «تُنهي المشكلة»، أو تلك التي اعتبرت سكان القطاع «حيوانات بشرية»، أو حين تنافس المندوبون على امتداح «الوحدة الوطنية الصهيونية» وكأنها قائمة أصلاً؛ أو، أخيراً، حين لم تفرغ كلمة من تلاوين نصب فزاعة العداء للسامية، خبط عشواء وكيفما اتفق!

وبدل حضور هرتزل المؤسس، حضر يائير فتى الليكود المدلل، فخيّم على أجواء «البرلمان» شبح الحاضر والمستقبل، بدل حلم الماضي الوردي؛ وكلاهما، في كلّ حال، كان مضرّجاً بدماء الأبرياء، وهكذا يبقى.

مقالات ذات صلة