من بلفور إلى بلير: وقائع الحاضر وسجلّ الماضي

صبحي حديدي

حرير- بمعزل عن ذكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في موقع الترؤس والإشراف والرقابة من داخل «مجلس السلام» حسب الخطة التي يجري الترويج لها والتفاوض حول بعض بنودها في شرم الشيخ؛ ثمة اسم آخر وحيد يُذكر صراحة، في عضوية المجلس العتيد: رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. مرجّح، إذن، أن يلعب الرجل دوراً محورياً في حاضر قطاع غزّة ومستقبله وسائر المخططات المشتركة الأمريكية ـ الإسرائيلية بعيدة المدى، من جهة أولى؛ وأن تتقاطع مهامّه، ومجمل أدائه، مع ما يُخطط للضفة الغربية من مشاريع إسرائيلية بصدد الاستيطان أو الضمّ أو الترحيل القسري…

وإذا جاز لهذا التفصيل أن يُفهم في إطار أعرض، هو الولاء المأثور المفتوح الذي أبداه بلير، ويواصل إبداءه، تجاه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية؛ فإنه يصعب ألا يبدأ من اعتبار قديم راسخ لدى «متصرّف» قطاع غزّة المقبل، هو انحيازه شبه المطلق لدولة الاحتلال الإسرائيلي، سواء تحت مظلة أمريكية أو حتى من دون رفعها فوق الرؤوس. التاريخ، من جانبه، يصعب ألا يردّ وقائع الحاضر إلى سجلّ سابق على صلة بالدور البريطاني في القطاع، وفي فلسطين عموماً؛ ابتداء من اجتياح غزّة عبر مصر (البلد الذي كان التاج البريطاني يحتله أصلاً، منذ 1882) والزحف نحو القدس، في أعقاب وعد اللورد آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني حول «تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين»؛ وصولاً إلى الوقائع الحافلة بين فرض الانتداب البريطاني، وتسهيل الهجرة اليهودية، والمواجهات مع العصابات الإرهابية الصهيونية، والانسحاب من فلسطين رسمياً في سنة 1948.

حوليات أخرى في صلة بلير بالمنطقة يصعب أن تطمس جريمة الحرب التي تواطأ على تلفيق ذرائعها، ثم أشرك القوات البريطانية في تنفيذها، خلال الاجتياح الأمريكي ـ البريطاني للعراق، سنة 2003؛ والتي لا يمكن لدلالاتها العديدة إلا أن تخيّم على أدائه في قطاع غزّة، خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. فلقد تكشف تباعاً، على هيئة مسلسل من فضائح الأكاذيب، أنه زاود على الأمريكيين أنفسهم في تصعيد الحرب النفسية، خصوصاً حين نشرت حكومته ما أسمتها «تقارير سرية خطيرة»، عن وجود ترسانة عراقية مرعبة: صواريخ سكود سليمة مصانة، وأطنان (نعم، أطنان!) من المواد الكيماوية الجاهزة للتحوّل إلى أسلحة كفيلة بإبادة «سكان الأرض بأكملهم»؛ كما جاء في النصّ الحرفي حينذاك. وقبل الانخراط التامّ في صفوف الفيالق الأمريكية الغازية للعراق، لم يترك بلير فرصة تفوته للإعراب عن متانة الصلات التي تجمعه مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، فلم يكتفِ بإغداق المدائح على الأخير، بل تطوّع لتبرير فضائحه الجنسية أيضاً.

وذات يوم سرد المعلّق البريطاني بول فوت جملة أسباب عميقة للشكّ في أنّ هذا الـ «توني بلير»، هو نفسه ذاك الـ «توني بلير» الذي صعد من صفوف الحزب إلى هرم القيادة على أساس مناهضة سياسات مارغريت ثاتشر الاجتماعية ـ الاقتصادية، ومن منبر دفاعه الحارّ والمشبوب عن حقوق الضمان الصحي، والنقابات، واقتصاد السوق. أهذا، تساءل فوت، هو بلير الذي وعد ـ في مؤتمر حزب العمال سنة 1996 ـ بسكك حديد يملكها القطاع العام وتخضع لمساءلة القطاع العام، وهو اليوم المسؤول الأوّل عن عدم بقاء تلك السكك في يد القطاع العام، وعدم خضوعها لرقابة القطاع العام؟ أهو الذي وعد بإعادة صناعة الكهرباء إلى الدولة، بعد أن خصخصها المحافظون؟

بيد أنّ على المرء، إذْ يستجمع كلّ هذه المعطيات عن شخصية بلير، ألا ينسى أنه في الأصل اعتلى هرم الحزب القيادي على هيئة المنقذ من سلسلة مآزق إيديولوجية بدت أشبه بأزمة هوية بين تراث حزب «العمال» الاجتماعي وميوله الليبرالية الوليدة، وتراكمات غياب عن السلطة دام 18 سنة. والناخب البريطاني لم يكن في حاجة إلى كبير عناء كي يدرك الفارق البرنامجي الضئيل بين «العمال الجديد» والركائز الكبرى في الفلسفة الثاتشرية. وفي نهاية المطاف، الناخب البريطاني أدلى بصوته وهو مثقل تماماً بضغوط ترجيح الاعتبارات الاجتماعية (العمل، التعليم، الصحة، السكن، النقل…)؛ على الاعتبارات السياسية (غزو العراق، التبعية لأمريكا، الاتحاد الأوروبي…)؛ أو الاعتبارات الإيديولوجية (يسار الوسط، يسار اليسار، يمين الوسط، يمين اليمين).

وقد لا يصحّ، كذلك، نسيان التصريح السياسي/ الروحي/ الديني الذي تجاسر بلير على إطلاقه قبيل زجّ القوات البريطانية مع الولايات المتحدة في جرائم حرب اجتياح العراق؛ حين اعتبر أنّ الله وحده كان حسيبه في ذلك القرار، وأنه صارع ضميره طويلاً قبل اتخاذه: «لقد توجّب عليّ اتخاذ ذلك القرار… وفي نهاية المطاف، أعتقد أنّك إذا كنتَ تتحلى بالإيمان في هذه الأمور، فإنك سوف تدرك أنّ الحكم على القرار يصدر عن آخرين». وحين سأله محاوره، مايكل باركنسون، عن قصده من هذه العبارة الملتبسة، أجاب بلير: «إذا كنتَ مؤمناً بالله، فإنّ الحكم لله»!

وبالطبع، كان من حقّ أُسَر الضحايا البريطانيين الذين قضوا في العراق أن يرفضوا هذا التلفيق الإيماني، فاعتبر ريغ كيز، مؤسس مجموعة «العوائل العسكرية ضدّ الحرب»، أنها تصريحات «مثيرة للاشمئزاز»، وبلير «يستخدم الله ذريعة للتملّص من ستراتيجية فشل شاملة». وتساءل الرجل، الذي فقد ابنه في تفجيرات أنفاق لندن: «هل نرى 100 كفن قادمة من هناك، لأنّ الله أخبره أن يذهب إلى الحرب؟ الحكم الأوّل يصدره أهالي الضحايا، وليس الله». من جانبها أعلنت روز جنتل، التي قُتل ابنها في البصرة سنة 2004، أنها «تشعر بالاشمئزاز» من تصريحات بلير: «المسيحيّ الحقّ لا يرسل العباد إلى هناك كي يُقتلوا».

يبقى أنّ التسريبات حتى الساعة حول خطط بلير، كما نشرتها الـ»فيغارو» الفرنسية مثلاً، تشير إلى وثيقة من 21 صفحة، بعنوان «سلطة غزّة الدولية الانتقالية»، وضعها مكتب بلير بالتعاون مع الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي؛ وتقترح حكماً للقطاع يتراوح بين 3 إلى 5 سنوات، أقرب إلى موقع تكاملي بين التسيير المرحلي والانتداب الفعلي. وللمرء، حتى تتضح التفاصيل وتُلتمس على الأرض، أن يمنح فضيلة الشكّ والانتظار للزمن المقبل أوّلاً، ثمّ إلى ما اعتصره المفاوضون الفلسطينيون من نقاط ملموسة في خطة يحتاج كلّ بند من بنودها الـ20 إلى مفاوضات قد تكون أكثر مشقة وتعقيداً. يتردد، أيضاً، أنّ الخطط سوف تُصمّم على غرار «إدارات» دولية انتقالية تدخلت في تيمور الشرقية وفي كوسوفو، وسيكون مستقرها في مصر على الحدود الجنوبية للقطاع، قبيل الانتقال فعلياً إلى غزّة حين «تستقرّ الأوضاع»، مع وصول وانتشار القوّة متعددة الجنسيات.

دور رئيس الحكومة البريطانية الأسبق بدأ مبكراً منذ أن تفوّه ترامب بفانتازيا تحويل القطاع إلى «ريفييرا فرنسية»، فجرى سريعاً تكليف»معهد توني بلير» الاستشاري بتدشين الخطوط الأولى لمشروع لا يبدأ من هوس رئيس/ تاجر عقارات في واشنطن، ولن يُختتم عند سياسي بريطاني لا يكفّ عن دسّ أنفه في شؤون الشرق الأوسط على سبيل التكسب وجني ملايين الدولارات. وكان أكثر من منتظَر وطبيعي أن يعهد ترامب إلى صهره جاريد كوشنر بالتعاون مع بلير، لأنه أبرز مهندسي «صفقة القرن» التي استولدت اتفاقات أبراهام وحرّكت عربات التطبيع.

وليس للمرء أن يتخيّل مقداراً من الولاء لدولة الاحتلال يفوق ما يمكن أن توفّره هذه الشراكة الثنائية، تحت رعاية الثنائي ترامب/ نتنياهو.

مقالات ذات صلة