غزه من الركام إلى الريادة.. هل ستكون مفاجأة الشرق الأوسط القادمة؟

د. عبد الله الزعبي

حرير- توقفت الحرب، وينهض سؤال جريء، هل يمكن لغزّة هذه البقعة الصغيرة التي أنهكتها الحروب والحصار أن تتحول إلى مركز إقليمي للريادة؟

سؤال يبدو للوهلة الأولى حالماً، لكنه ليس مستحيلاً في زمن تتبدّل فيه خرائط المنطقة، وتُعاد فيه صياغة موازين القوى، وتُمنح الشعوب فرصة نادرة لإعادة تعريف ذاتها من جديد.

رغم الدمار شبه الكامل للبنية التحتية، إلا أن ما يميّز غزّة هو طاقة شعبها البشرية الهائلة، ووجود فئة شبابية تمتلك مهارات تقنية وريادية مذهلة حتى وسط الحصار.

تجارب التاريخ القريب تذكّرنا بأن المدن التي وُلدت من الرماد قد تصبح لاحقًا رموزًا للنهوض، كما حدث في هانوي بعد حرب فيتنام، أو في برلين بعد الحرب العالمية الثانية.

غزّة اليوم تقف على مفترقٍ تاريخيٍّ بين أن تبقى رمزًا للمأساة، أو أن تتحوّل إلى نموذجٍ في الإرادة والإبداع. فبين ركام الأبنية وشواطئها الساحرة وثرواتها الكامنة، تختزن المدينة ما يمكن أن يكون قاعدةً اقتصادية واعدة، إذا أُحسن توظيف مواردها البشرية والطبيعية والسياسية، لتحويل الألم إلى طاقة بناء لتحقيق التنمية المستدامة، وهي الشكل الأرقى للمقاومة.

غزّه التي تمتلك، واحدًا من أجمل شواطئ البحر المتوسط، يمتد على أكثر من أربعين كيلومترًا، ويقع على أحد أهم المنافذ الجغرافية في العالم، بين إفريقيا وآسيا، وبالقرب من قناة السويس، وباب المندب، والممرات البحرية العالمية. يمكن لها أن تتحول إلى نقطة عبور تجارية وسياحية تربط ثلاث قارات، إذا ما أُعيد تأهيل مينائها ومطارها، وتم فتحها أمام حركة البضائع والأفراد ضمن نظام دولي ضامن للأمن، ستتحول الى عقدة لسلاسل التوريد والربط اللوجستي العالمي.

يضاف الى ذلك، امتلاك غزه لثروات طبيعية مهمة مثل رمال السليكا عالية النقاء التي تُعدّ أساس الصناعات التكنولوجية، وحقول الغاز المكتشفة في بحرها، والتي يمكن أن تغيّر مستقبلها الاقتصادي إذا استُثمرت ضمن إطار إقليمي متوازن.

إعادة إعمار غزّة ليست مجرد مشروع هندسي، بل مشروع وطني دولي، يمكن أن تتحول إلى مركز جذب استثماري، يفتح الباب أمام نموذج اقتصادي جديد يقوم على التكنولوجيا، والطاقة النظيفة، والسياحة الساحلية، والصناعات المتقدمة، ليس للشعب الفلسطيني فقط، بل في الشرق الأوسط في حال تحولت الى منطقة اقتصادية حرة تربط بين مصر وإسرائيل والضفة الغربية والاردن، وتكون بوابة للتجارة نحو البحر المتوسط.

مثل هذا المشروع يحتاج إلى مناخ سياسي مستقر، وإدارة مدنية احترافية، وشراكات استثمارية طويلة الأمد مع مؤسسات عربية ودولية.

لتحقيق تحول حقيقي لغزّة بعد وقف إطلاق النار، هناك خمس ركائز أساسية يجب التركيز عليها، الوحدة الفلسطينية عن طريق إنهاء الانقسام السياسي بين غزة والضفة الغربية لضمان إدارة موحدة وفعّالة للقطاع، والشفافية والمساءلة عن طريق بناء مؤسسات إدارية ومؤسسية تتمتع بالقدرة على إدارة الموارد وتوجيه مشاريع الإعمار بشكل مسؤول، والتمويل الدولي المستدام عن طريق تأمين دعم مالي طويل الأمد من المؤسسات الدولية والدول الصديقة لضمان استمرار المشاريع الكبرى، والشراكات الاقتصادية الذكية لجذب الاستثمار في قطاعات التكنولوجيا، والطاقة، والسياحة، والبنية التحتية بما يخلق فرص عمل مستدامة، وتمكين الموارد البشرية عن طريق الاستثمار فيها من خلال برامج تدريب وتعليم مهني وتقني يضمن تحويل الكفاءات إلى قوة اقتصادية فاعلة. الشرط الأساس لذلك هو وجود بيئة سياسية مستقرة وإدارة موحدة ومسؤولة للقطاع.

لقد أدركت القوى الإقليمية والدولية أن أي مشروع اقتصادي أو سياسي لغزّة لن ينجح ما لم يكن جزءًا من رؤية وطنية فلسطينية موحّدة تفتح الباب أمام تسوية عادلة مع إسرائيل.

مصير السلام الفلسطيني الإسرائيلي في المرحلة المقبلة سيتوقف إلى حدٍّ كبير على قدرة الفلسطينيين على بلورة موقف موحّد يُعيد الشرعية السياسية إلى المشهد ويمنح المجتمع الدولي شريكًا يمكن التعامل معه بثقة.

في خضم التحولات المتوقعة بعد وقف إطلاق النار في غزّة، يبرز الدور الأردني بوصفه أحد أكثر الأدوار حساسيةً وأهمية في رسم ملامح المرحلة المقبلة.

فالأردن، بحكم موقعه الجغرافي وصلاته التاريخية بالقضية الفلسطينية، سيكون طرفًا معنيًا بأي ترتيبات سياسية أو اقتصادية تخص إعادة إعمار القطاع أو إدارة المعابر أو دعم السلطة الفلسطينية في استعادة دورها.

لكن التحدي الحقيقي لا يقتصر على الموقف الدبلوماسي، بل يمتد إلى الداخل الأردني ذاته؛ إذ يتطلب الواقع الجديد إعادة تموضع اقتصادي وسياسي يتيح للأردن الاستفادة من فرص ما بعد الحرب، سواء عبر المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار، أو عبر تطوير البنية اللوجستية في العقبة والمعابر لتكون ممرًا طبيعيًا للسلع والمواد نحو غزّة.

كما أن المرحلة القادمة تستدعي من الأردن تعظيم أدواته السياسية والإعلامية، في ظل موقفه القوي خلال الحرب على غزة، وهو الذي كسر الحصار، وضمد الجراح، واستمر في الدفاع عن حل الدولتين، وتحقيق توازن دقيق بين التزامه بالموقف العربي المشترك وحماية استقراره الداخلي في ظل تزايد التعاطف الشعبي مع غزّة.

بكلمةٍ أخرى، فإن ما بعد الحرب في غزّة لن يكون شأنًا فلسطينيًا فحسب، بل اختبارًا استراتيجيًا للأردن أيضًا في قدرته على تحويل أزمات المنطقة إلى فرص جديدة تعزز حضوره الإقليمي وتعيد رسم موقعه في معادلة الشرق الأوسط المقبلة.

إذا نجحت عملية إعادة الإعمار وأُعيد دمج غزّة في المنظومة الاقتصادية الإقليمية، فقد تكون نقطة انطلاق لشرق أوسط جديد يقوم على التعاون بدل الصراع.

ولذلك، فالمستقبل مرهون بإرادة الشعوب قبل الحكومات، وبقدرة المنطقة على التعلم من دروسها، وتحويل الحرب إلى بداية لمرحلة تنموية حقيقية.

قد تبدو فكرة ان تكون غزه مركز للريادة والابداع، بعيدة المنال، لكنها ليست خرافة.

فالتاريخ يثبت أن المدن التي تنهض من بين الركام هي التي تصنع التحولات الكبرى.

وغزّة، إن امتلكت الإرادة والوحدة والرؤية، يمكن أن تتحول من عنوانٍ للمعاناة إلى رمزٍ للنهوض العربي، على الرغم من الصعوبات التي قد تصطدم بعوائق المواقف الإسرائيلية، والتجاذبات الإقليمية بين القوى الكبرى، في ظل البيئة السياسية الهشّة في الشرق الأوسط.

رغم الصعوبات، تبقى غزّة، التي قاومت الموت لعقود، ليس امامها الا أن تكون بوابةً لنموذج جديد من التعاون الإقليمي والتنمية، وهي قادرة على التحوّل من رمز المأساة إلى رمز النهضة، وأن تحيا من جديد، لتصبح نموذجًا عربيًا للنهوض من تحت الركام، وتكتب فصلاً جديدًا في تاريخ الشرق الأوسط، لا بالحرب، بل بالبناء، وتتحول بذلك إلى نقطة اختبار لمستقبل المنطقة.

اليوم المنطقة بأكملها تتجه نحو إعادة رسم خرائط النفوذ، إسرائيل تبحث عن أمنها الوجودي، والدول العربية عن توازن جديد بين شعوبها ومصالحها، بينما تتحرك القوى الكبرى، من واشنطن إلى بكين وموسكو لإعادة تعريف أدوارها في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة