
مشروع ترامب لوقف حرب الإبادة… فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
عبد الحميد صيام
حرير- ما زالت آلة القتل تعمل يوميا في قطاع غزة، من المفروض أن تبدأ عملية التهدئة فور قبول الطرفين الخطة التي تقدم بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتبدأ بوقف إطلاق النار، ثم عملية إطلاق الأسرى. أما البندان المهمان بالنسبة لحركات المقاومة، فهما وقف إطلاق النار أولا وقبل كل شيء، ثم تدفق المساعدات الإنسانية بإشراف أممي بعيد عن مراكز تصيّد واستهداف الباحثين عن لقمة عيش، تعجل موتهم بالرصاص قبل أن يموتوا جوعا. ليس من حق أحد أن يزايد على فصائل المقاومة.
وقد سبق وكتبت هنا «المقاوم العنيد هو المفاوض العنيد».. لا يحق لأحد أن يملي على المقاومين شروطا ونصائح، أو مسبّات، سواء كان في رام الله أو عمّان أو لندن أو نيويورك. هم وحدهم من يقرر. وكما قال أحد المعلقين المشهورين: هم على صواب إن قبلوا خطة ترامب، وهم على صواب إن لم يقبلوا بها.. فأهل مكة أدرى بشعابها، ومن يقاتل ويضحي ويقدم، معظم إن لم يكن كل قيادات الصف الأول شهداء، لا يجوز لزمر الفساد والانحراف أن يرفعوا أصواتهم بالنصائح والتعليمات والمسبات.
أود فقط أن أعبر عن عدم ثقتي وتخوفي وقلقي البالغ من خطط ترامب ومبادراته. ومن حقي أن أشكك في الفريق المكلف بالعمل معه، وبالتنسيق مع الأطراف الأخرى للتفاوض حول تنفيذ الاتفاقية بندا بندا انطلاقا من وقف إطلاق النار، ثم تسليم الأسرى، خاصة أنه ضمن دورا لكل من مجرم الحرب توني بلير ومهندس الاتفاقيات الإبراهيمية جاريد كوشنير. ولكن كيف يمكن تسليم الأسرى إذا لم تكن هناك انسحابات من مناطق عديدة تسمح لرجال المقاومة أن يتواصلوا مع القائمين على حراسة الأسرى لتأمين خروج آمن ومرافقة آمنة وتسليم آمن، كما حدث في المرات السابقة، حيث اتفق على عدم قيام المسيرات بالتحليق في الأجواء، ولا الطيران فوق منطقة الاستلام والتسليم. وهل تثق المقاومة في جيش القتلة حتى تقوم بهذه العملية المعقدة، دون أن يكون إعادة تموضع وضمانات لتنفيذها في جو آمن؟ إذن عمليات الانسحاب وإخلاء بعض المناطق لا بد أن يتزامن أيضا مع عملية وقف إطلاق النار من أجل تسليم آمن للأسرى. وبما أن إطلاق الأسرى الإسرائيليين يتزامن مع إطلاق الأسرى والمحتجزين والمخطوفين والموقوفين الفلسطينيين، فلا بد أن يكون هذا الجانب آمنا أيضا. أين سيذهب الفلسطينيون المحكومون بأحكام عالية، وهل من ضمان بأن إسرائيل لن تصفيهم في اليوم التالي، أو الأسبوع التالي أو الشهر التالي؟
هل نثق بترامب؟
يبدو أن عجز الأنظمة العربية والدول الإسلامية، التي عقدت ثلاث قمم حول غزة مرتين في الرياض والثالثة في الدوحة، عن التأثير في تطورات الصراع، بل عجزت عن إدخال قارورة ماء، أو سلة غذاء لغزة المحاصرة، تشبثت بخطة ترامب ورأت أنها تخرج الأزمة من النزاع الدائم إلى حل سريع، فراحت ترحب بالمبادرة وتثني على صاحبها. وكذلك فعلت الأمم المتحدة وأمينها العام، الذي علق عجزه ومواقفه المتذبذبة على مبادرة ترامب. وراح بعض القادة العرب والمسلمين يروجون لأهلية ترامب لجائزة نوبل، حتى قبل أن تصمت مدافع وقذائف كيان الاحتلال في غزة ولبنان وسوريا واليمن. فهل مبادرته تستحق كل هذا الإطراء؟ وهل جاءت مكتملة لتنقذ المنطقة من صراع المئة عام، وتعيد للفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم غير القابلة للتصرف، خاصة بناء الدولة المستقلة ذات السيادة والمترابطة جغرافيا وعاصمتها القدس، مع ضمان حق اللاجئين وأبنائهم وأحفادهم بالعودة إلى فلسطين. الجواب بالتأكيد لا، فمبادرة ترامب تنقذ أولا إسرائيل من أزمتها الخانقة في الداخل والخارج. فبعد طوق العزلة الخانق الذي التف حول عنق الكيان الفاشي، عبر القارات جميعا، تأتي هذه المبادرة لتنقذ نتنياهو من عزلته وهزيمته، وتصوره رجل دولة يعمل على صنع السلام بالتعاون مع ترامب. والمشروع الذي طرحه ترامب غامض غير مكتمل، لا يجيب على مئة سؤال وسؤال، لكنه يحاول أن يضمن تفوقا لإسرائيل وهزيمة للمقاومة، وتغييرا جذريا لتركيبة غزة الديموغرافية والثقافية والحضارية ويحولها، إذا نجح في تنفيذ خطته، منطقة هيمنة لإسرائيل وأمريكا. كيف يمكننا أن نثق في ترامب وخططه، أو في أمريكا بكاملها وهي التي قدمت ما قيمته 31 مليار دولار لإسرائيل، على شكل مساعدات عسكرية وأموال سائلة خلال سنتي الحرب حسب تقرير جامعة براون العريقة؟ كيف يمكن أن نثق بمن اعترف بالجولان جزءا من إسرائيل، واعترف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، وأقامها على أرض منهوبة من الفلسطينيين؟ كيف يمكن أن نثق بترامب وهو الذي فاجأ نتنياهو في لقائهما الأول، وأعلن أنه ينوي أن يفرغ غزة من جميع سكانها لتصبح منطقة أمريكية وسيحولها إلى ريفييرا للأغنياء؟ ما أسال لعاب نتنياهو وراح يعمل على تطبيق الفكرة فعلا لا قولا. كيف نثق بترامب وهو الذي تكلم مع العاهل الأردني بطريقة مجافية للأدب، حول ضرورة أن يستوعب الأردن الفلسطينيين، الذين سيهجرون من الضفة الغربية وطلب من مصر استيعاب الذين سيهجرون من غزة؟ ففي رأيه أن «مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكرتُ كيف يمكن توسيعها». هل هناك رعونة أكثر من هذا التصريح؟ أم أن ذاكرة العرب قصيرة؟ هل تغير بهذه السرعة؟ نأمل ذلك.
كم مرة أعطى ترامب تحذيرات نهائية لحركة حماس بضرورة الاستسلام وإطلاق الأسرى وتسليم سلاحها، وإلا فسيفتح عليها نيران جهنم. صلابة المقاومة هي التي أطاحت بمثل هذه التصريحات وأجبرت ترامب على أن يفاوضها. فتح ترامب ترسانته من الأسلحة الثقيلة التي كان بايدن «الذي وصف نفسه بأنه صهيوني غير يهودي» منعها عن إسرائيل، خاصة قنابل الـ2000 رطل التي تملك قوة تدميرية هائلة وقدمها لإسرائيل على وجه السرعة، بعد دخوله البيت الأبيض بأيام. كيف نثق بترامب وهو الذي شارك إسرائيل في جميع حروبها وعلى جميع الجبهات منذ تولي السلطة، سواء في غزة أو لبنان أو اليمن أو قطر أو من خلال الفيتو في مجلس الأمن؟ ألم تقم إدارة ترامب في الساعات الأولى ليوم الأحد 22 يونيو بمهاجة ثلاث منشآت نووية إيرانية، دون أن تكون هناك حالة حرب بين البلدين، بل مفاوضات سياسية في عُمان. وهذا بكل بساطة يصنف «جريمة عدوان» في القانون الدولي. جاء هذا بعد أن سمح لإسرائيل أن تشن غارات على إيران لمدة 12 يوما. ثم ادعى أنه أوقف الحرب بين إيران وإسرائيل، وبعد أن تأكدت إسرائيل أنها غير قادرة على منع وصول الصواريخ الإيرانية كل المناطق داخل الكيان. هل يصدق عاقل أن إسرائيل قامت بضرب الدوحة لاصطياد كل قيادة حماس يوم 9 سبتمبر، من دون ضوء أخضر من الولايات المتحدة، وأن قاعدة العديد بقدراتها التكنولوجية الخارقة، لم ترصد الضربات الجوية إلا بعد انتهائها. من المؤكد أنه كان يعرف واتفق مع نتنياهو على الضربة. فإذا نجحت العملية يهنئ القادة الإسرائيليين على مهاراتهم، ويأخذ جزءا من الفضل. وإن فشلت سيبعد نفسه عن العملية، ثم يحاول ترقيع الأمور مع دولة تقوم بدور الوساطة، واستطاعت أن تنقذ أكثر من 100000 أمريكي ومتعاون مع الأمريكيين من أفغانستان عندما انهار الوجود الأمريكي.
خطة ترامب تجاهلت ما جرى في غزة المدمرة ومأساة الشعب الفلسطيني من جذورها، وتجاهلت الاحتلال والاستيطان وجرائم المستوطنين والحصار والحواجز وآلاف الأسرى والمعتقلين. لهذا كله، ورغم ثقتنا في رجاحة قرارات المقاومة، فهم أعرف بأوضاعهم، إلا أننا لا نثق في خصم، هو أحد وجوه المأساة، يتحول إلى حكَم يحاول أن يفوز بجائزة نوبل على حساب الدم الفلسطيني.