من انتصر في غزة هذا سؤال الموتى والمقهورين!

جواد بولس

حرير- في خضم الدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على غزة، وتجاهلا لاعداد ضحاياها وما أفضت اليه من تداعيات سياسية على جميع المستويات والمحاور، يبرز سؤال مريب، وهو من انتصر في هذه الحرب؟ وهو سؤال على بساطته الظاهرة، يخفي وراءه شبكة معقدة ومتشابكة من السرديات والتوظيفات والدوافع السياسية، التي تجعل التوافق على معنييّ «الانتصار والهزيمة» أمرا مستحيلا.

فعلى الساحة الإسرائيلية، نجد أن الخلاف الأساسي يدور بين مؤيدي حكومة نتنياهو، ومعارضيها، إذ يدّعي نتنياهو أنه نجح في ترميم قوة الردع الإسرائيلية التي تضعضعت بصورة غير مسبوقة جراء هجوم السابع من أكتوبر 2023، ونجح كذلك بتحقيق شكل من أشكال الحسم العسكري ضد حركة حماس في قطاع غزة، وحلفائها في «معسكر المقاومة» لاسيما بعد القضاء على قيادات الحركة العسكريين، وتفكيك منظوماتها القتالية.

معارضو نتنياهو داخل إسرائيل يتهمونه بفشل تحقيق أهداف الحرب التي أعلنها في البداية وهي، استعادة الرهائن المحتجزين في قطاع غزة، وترميم ثقة الشعب بالمنظومات الأمنية والعسكرية، واستعادة وحدة «الروح القتالية» اليهودية، وهي أهم عوامل حصانة الدولة العبرية، والقضاء على حركة حماس بالكامل. فعلى الأرض، هكذا يدّعي معارضوه، رغم مرور عامين كاملين لم تستسلم حركة حماس، أي أنها لم تهزم، بل ما زالت تحتفظ بوجود ميداني وتنظيمي عسكري مكّنها أن تقبل كعنوان معترف به إسرائيليا ودوليا في المفاوضات، فضلا عن استمرارها بتهديد إسرائيل وتنفيذ عناصرها بعض العمليات العسكرية الاشتباكية مع جيش الاحتلال. كذلك يتهمه المعارضون بفشله في استعادة الرهائن، حتى بات الإفراج عنهم مخاطرة على حياتهم وخيارا تتدخل فيه حكومات عديدة، وخاضعا لتفاهمات معقدة لم تفلح آلة حربه من اجتنابها. قطاعات إسرائيلية واسعة تراجعت عن تأييدها لحكومة نتنياهو وتفويضها له بمعاقبة حماس عسكريا، بعد أن اتضح لهم أن استمراره بها يخدم أهدافه الحزبية ومصالحه الشخصية، ويعكس، في الوقت ذاته، تورطه في أزمة سياسية تلزمه بإطالة الاقتتال ضد الفلسطينيين وليس انهاء الصراع معهم. لقد عادت حالة الانقسام الاسرائيلي الداخلية الى وضعها ما قبل السابع من أكتوبر، ولم يعد لشعار «معا سننتصر» أي معنى، فالحرب التي وحدتهم قبل عامين، تحوّلت إلى حالة خلافية صدامية داخلية لا نعرف كيف ستنتهي.

على الضفة الأخرى، تقدم حركة حماس سردية مختلفة تماما لمعنى «الانتصار والهزيمة»، فوفقا لمفاهيم قادتها لا يقاس النصر بمقاييس القدرة العسكرية وما تتيحه لأصحابها من سيطرة على الأرض، أو قوة لتدمير البنى التحتية ومعالم العمران كلها ولا لعدد الضحايا. فحماس تعتبر هجومها في السابع من أكتوبر 2023 نقطة تحول مفصلية في «حرب التحرير» والمواجهة مع إسرائيل؛ وزلزالا أمنيا ستبقى نتائجه الرادعة محفورة في وجدان الإسرائيليين الذين عاشوه، ووجدان من سيأتي بعدهم. أما الانتصار، وفق هذه المفاهيم «الحماسية»، فيعني القدرة على الصمود والحركة وتحدي هيبة جيش العدو، شريطة أن تفضي جميع هذه العوامل إلى خلخلة المعادلات الاقليمية أو نسفها. كما في إسرائيل كذلك في فلسطين، لا يوجد إجماع حول مواقف حماس وتسويغاتها لما جرى ويجري بعد هجمتها المباغتة. ولئن كانت الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية واضحة قبل السابع من أكتوبر، جاء الهجوم وغطى على عمقها وخطورتها وحجب تردداتها العلنية. ولكن مع مرور الأيام عاد الخلاف إلى حدته المعهودة وحالته القديمة، التي قد تحسم فقط في «اليوم التالي» أي بعد انتهاء الحرب، ووفقا لما سيفصله أصحاب النفوذ والمصالح والمخاوف والمطامع وأحكامهم في توزيع الغنائم. بعض الفلسطينيين وأصدقاء فلسطين، بدأوا يطرحون تساؤلات، قد يعتبرها البعض إشكالية في هذه المرحلة. فهل يمكن، مثلا، لفصيل مقاوم، كحركة المقاومة الإسلامية – حماس، خاصة أنها ليست جزءا من منظمة التحرير الفلسطينية، إعلان الحرب وإعلان الانتصار فيها، وأهل غزة ما زالوا يرثون أنقاض مدنهم ومخيماتهم وهي تتحول إلى أرض يباب. وما زالوا يحصون قتلاهم وجرحاهم يوميا بالعشرات والمئات، وقوافل النازحين والمهجرين، تمتد طوابير لا تنتهي، أو هل يبرر صمود الفصيل وبقاؤه «حيا» ادعاء نصره وامتلاكه حقا فلسطينيا شرعيا للدخول في مفاوضات يغيب عنها، على الأقل في هذه المرحلة، مصير أختيها الضفة الغربية والقدس؟ لا تحرج هذه التساؤلات قادة حماس ولا يحرجهم التذكير بمواقفهم من منظمة التحرير، أثناء مفاوضات أوسلو، ومن السلطة وهي تتفاوض مع العدو ومع حلفائه، فهم على قناعة، كمن يواجهون الحرب على أرضهم، بأنهم يملكون الحجة والأجوبة. هم يعتبرون ما دفعه ويدفعه أهل القطاع جزءا من عملية «التحرير الطويل»، وهذه العملية لن تستمر إذا هاب الفلسطيني عدوه، وإذا لم يتحدَّ قوانينه ومعادلاته في الردع التي يحاول فرضها فقط بسبب امتلاكه قدرات عسكرية فائقة. إن شعبا كهذا لن ينتصر أبدا.

بعد عامين من حرب ضروس تعيش فلسطين حالة مأزومة وصراعا على الشرعيات ووسائل المقاومة وأشكالها، وغزة ترسم بالدم مأساة القرن الحادي والعشرين؛ وبعد عامين لم يستطع نتنياهو الحصول على صورة «البطل المنتصر»، ومنقذ شعبه من «إرهاب حماس»، بل على العكس تماما، فقد أدخلت حكومته شعبها، ومعهم يهود العالم، في حالة لم يشهدوها منذ مئة عام، وخاضت حربا استفزت ضمائر ملايين البشر. مرّ عامان على «مغامرة» ما زال أثرها يتداعى ويقلب موازين العدل ومقاييسه. عامان أدخلا المنطقة والعالم في أزمة وعجز، حتى لم يعد يوجد معنى «للانتصار المطلق»؛ فلجأت حماس ومثلها نتنياهو للحديث عن «الانتصار» بمفهومه النسبي «وبواقعية» فرضها في النهاية على الجميع «عامل ثالث» كان مغيّبا حتى بعث من بين أنقاض غزه وصراخ جثثها؛ كان ذلك العامل هو صوت الضحايا التي أخرجت هذه المرة العالم عن صمته. ففي غزة شاهد العالم «حربا «من طرف واحد. وفي مثل هذه الحروب غير المتكافئة من أصلها، لا يمكن للفلسطيني الضعيف عسكريا الحديث عن انتصارات بمفاهيم «إسبارطية» كما يريدها نتنياهو، ولا تملك حماس الوسائل الكافية لهزيمة إسرائيل. وفي هذه الحرب غير المتكافئة لن تنجح إسرائيل ولا تستطيع أن تحسم المعركة عسكريا، إلا بثمن تهجير كل الفلسطينيين أو قتلهم، أو أن تتحول إلى قوة احتلالية مباشرة في غزة، وهذا خيار لا ترغب فيه قيادات الجيش ولا عدة قوى سياسية أخرى، وجهات دولية كثيرة.

أكتب مقالتي أثناء نشر الأخبار الأولية حول التوصل في شرم الشيخ إلى اتفاق وقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين وعن الرهائن الإسرائيليين. لم تمنح، بالعادة، «الضحايا» شرف أن تكون جزءا من مشهد «الانتصار» في وقت الحرب، بل كانت دوما مادة الحروب الدعائية وحطبها. وتصبح، بعد انتهاء الحرب، فصلا قصيرا في كتاب يحتكر روايته السياسيون والقادة العسكريون، أو يمنحون على منابر الوعاظ ألقاب «الشهداء» أو «الأبطال» من على منصات الحكام والسياسيين. ولكن قد تغيّر غزة هذه المعادلة.

فمع كل الحيطة والحذر من نوايا إسرائيل وأمريكا، تستدعي الأخبار الواردة التفاؤل، خاصة إذا أدّت إلى وقف إطلاق النار وتمكين الغزيين من الحصول على «بعض» حياة، وإلى الإفراج عن مئات الأسرى من سجون الاحتلال. وإذا حصل سيعد هذا «انتصارا» للموت على صنّاعه، واذا استمرت الحياة سنسمع أصوات الضحايا الخارجين من صمتهم يغنون «لم يبق لدينا ما نعطيه، أعطيناه دمنا، أعطيناه حتى أعظمنا وجماجمنا ومضينا مقهورين لا نملك إلّا بعض تراب لم نعطه».

أقول وأعرف أن مطامع إدارة ترامب كبيرة وخبيثة، ولا تشمل بالضرورة تسديد الدين للفلسطينيين، وحكومة إسرائيل لم تتخل عن مطامعها في أرض فلسطين، حتى إن وقعت على اتفاق المرحلة الأولى التي قد تكون الأخيرة أيضا.

مقالات ذات صلة