خنجر ترامب المسموم

لميس أندوني

حرير- “خطة ترامب” هلامية الملامح الخاضعة للتعديل وفقاً للشروط الإسرائيلية، لا تخص حركة حماس ولا الفلسطينيين وحدهم، فتداعيات ما يخطّطه صاحبها خطيرة على كل المنطقة، إذ يشدّد إعلانها على أنها لا يقبل التفاوض أو النقاش، بل ابتزاز بمزيد من القتل والترويع لأهل غزّة إذا لم تقبل حركة حماس بها كما هي، أو كما قد ستغيّرها إسرائيل في أي وقت تشاء، لكنه خنجر يبث السموم في الجسد العربي، فالمقصود قلب العالم العربي على “حماس” والفلسطينيين، لو تجرّأت “حماس” وقدّمت قبولاً مشروطاً بالحفاظ على أقل من أدنى الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني. وليس هناك التزام إسرائيلي بأيٍّ من بنودها، بعد قبول “حماس” بها، بل تعطي التغييرات التي فرضتها إسرائيل على مسوّدة الخطّة التي اتفقت دول عربية وإسلامية عليها مع الرئيس دونالد ترامب الحقّ لإسرائيل بتحدّي أي من الخطوات وفقاً لما تمليه “مصالحها” أو تأجيلها. وهذا ما تفعله إسرائيل دائماً في كل اتفاقياتها مع الدول العربية، أي تقدّم حججاً “أمنية”، ليس بغرض المماطلة، وإنما للتهرّب من التزاماتها، كما رأينا في اتفاقيات أوسلو ومعاهدة وادي عربة من قبل، فتضع شروطاً جديدة لتنفيذ انسحاب الجيش الإسرائيلي أو دخول المساعدات، بغرض تثبيت سيطرتها الدائمة على غزّة، كسباً للوقت لتنفيذ الرؤية الأميركية الإسرائيلية بتحويل غزّة إلى مشروع رأسمالي يديره مجلس استعماري لا مكان فيه لحقوق الفلسطينيين ومن يتبقون من سكان غزّة. لذا؛ أصرّت إسرائيل على أن يكون قرار التنفيذ بيدها، وهي استعملت هذه القوة، الممنوحة من “الوسيط” الأميركي في كل مرحلة تفاوضية مع الطرف العربي، لفرض واقع على الأرض يجعل من تقسيمات أوسلو خريطة طريق لضم الضفة الغربية والقدس المحتلتين، بدلاً من مرحلة انتقالية تقود إلى إنهاء الاحتلال، وفي النهاية، لم تعد إسرائيل في حاجة إلى اتفاقية أوسلو على مساوئها، فهي سائرة في تنفيذ مشروعها الاستيطاني، فـ”خطّة ترامب” المرنة وسيلة لحشر “حماس” والعرب في زاوية لوضع اللوم عليهم، في حال أطلق ترامب العنان لاستمرار آلة التوحّش الإسرائيلية في هجوم سيكون أقسى من كل ما سبقه من تدمير وموت، وكأن أهل غزّة لا يعيشون في جحيم.

المشكلة أن العرب أيضاً سيلقون اللوم على “حماس”، فقد تعامل ترامب وإسرائيل مع أي اتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة أداة لمنع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإزالة أي عائقٍ أمام المشروع الكولونيالي الاستيطاني الصهيوني، فالخطّة لا تتعارض مع التطهير العرقي للفلسطينيين في غزّة، بل تحاول أن تُلبِسها صفة “إنسانية” تحت بند السماح لمن يريد بالرحيل، لإظهار الترحيل القسري ترحيلاً طوعيّاً، فاللغة في خطّة ترامب ليست مجرّد كلمات، وإنما تغطية على التطهير العرقي تحت مسمّيات كاذبة، وإذا أمعنّا في الخطة نجد أن ترامب لم يُلزم إسرائيل بوقف ضم الضفة الغربية، وحتى طلبه من إسرائيل ذلك في المستقبل سيكون تأجيلاً، فما يهم المؤسّسة الأميركية، بغض النظر عن شطحات ترامب، عدم تعطيل توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية، أي إن الرئيس الأميركي لن يضغط على إسرائيل بعدم ضم الضفة الغربية رسمياً، وإنما المقصود تأجيل الضم، إلا إذا عرقلت إعلان الضم انضمام دول عربية إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، التي تمهّد لدمج إسرائيل في المنطقة وفرض هيمنتها، فواشنطن تعي أن فرض هيمنة إسرائيل لا يأتي بالقوة العسكرية فقط، وإنما عن طريق “التعاون الاقتصادي والأمني والعسكري، والتطبيع الثقافي ومسح القضية الفلسطينية من الوعي الجمعي العربي. لذا الاتفاقيات الإبراهمية هي العماد الرئيس لتحوّل التفوق العسكري الصهيوني إلى هيمنة سياسية، وليس فقط عسكرية على المنطقة”.

وعليه؛ أكبر خدعة في تسويق “خطّة ترامب” محاولة تصويرها تمهّد لقيام دولة فلسطينية وسلام دائم في المنطقة، بل إن خطة ترامب كما هي غير مستعدة للتمهيد لفتح أفق لقيام الدولة الفلسطينية. لكن ما تسميه “الأفق” هو في الواقع حفرة صغيرة جدّاً في جدار صلب تستطيع إسرائيل تضييقها أو إغلاقها وقت تشاء، فضلاً عن أن إعلان ترامب وضع العراقيل في وجه الفلسطينيين للوصول إلى هذه الفتحة في الجدار.

والحديث عن شرط إتمام عملية إصلاح في السلطة الفلسطينية مزحة أصبحت ثقيلة جدّاً، لأن الإصلاح المطلوب أن تنهي السلطة ما تبقى من تراث ومظاهر وسياسات تسمح بهامش للمقاومة، وليس المقاومة المسلحة فحسب، بل السلمية والثقافية والحقوقية، والتخلي عن الحقوق في المحافل الدولية، لأن أميركا تحتاج إلى موافقة السلطة على إنهاء ذلك كله، فيما إسرائيل غير مهتمة ولا تريد السلطة. أي إن الفرق بين الموقفين، الأميركي والإسرائيلي، من السلطة أن واشنطن تعتقد أنه يجب دفع السلطة إلى إجراء “إصلاحات” بغرض إنهاء جميع مظاهر التشبث بالحقوق أو عوامله، لأن القتل وتدمير البيوت لا يفيان بالمهمّة، فالمطلوب تدمير سياسي يمنع الحركة الوطنية الفلسطينية من النهوض، وهو بعدٌ لا يراه نتنياهو الذي يؤمن بالقوة فقط. ولا يعني ذلك أنه غير معني بعزلة إسرائيل التي شكلت له صفعة في نيويورك، لكنه يرى أن القوة العسكرية تفرض واقعاً على الأرض سيؤدّي إلى هزيمة الفلسطينيين والعرب وقبول كل شروط الاستسلام، فالقصة عند نتنياهو ليست خطّة ترامب بقدر توظيفها لإخضاع الفلسطينيين والعرب؛ فكما هو المشهد حالياً، الخطة التي لا يلزم بها الطرفان الإسرائيلي والأميركي تحتاج إلى موافقة فلسطينية، لتدشين “انتصار إسرائيلي” يطغى على هدير التضامن الأممي، لأن غرض الخطة، وما قد يأتي من ملحقاتها، إنقاذ إسرائيل من عملية التدمير الذاتي، فاستسلام الفلسطينيين شرط انتصار إسرائيل وفرض هيمنتها على المنطقة.

لا يلغي كل ما تقدّم المأزق الفلسطيني، وهو مأزقٌ لا يمكن تحميل حركة حماس وحدها مسؤوليته. لنتذكر أن الدول العربية قبل 7 أكتوبر (2023) تركت الفلسطينيين وحدهم، وكانت إسرائيل تمنّي نفسها وتتجهز لتوقيع اتفاقية تطبيع مع السعودية، تحقق طموحاتها ببدء “المرحلة النهائية” من تصفية القضية الفلسطينية. ولا توجد وصفة للخروج من المأزق، وهو ليس سببه عدم وجود حلول يجترحها العقل الإنساني، ولكن لأن أميركا وإسرائيل ترفضان الحلول المنبثقة من الاعتراف بالحقوق، فالحقوق لا مكان لها في قواميس المشروع الصهيوني وفي عقل ترامب المهووس بالعظمة والانتقام ممن يقف أمامه، ولا في المفاهيم الاستعمارية للمؤسسة الأميركية، فقد أنذر ترامب وأخذ أهل غزة رهينة لتوحشه.

الجميع يتحملون المسؤولية، قد لا يستطيع أحد وقف ترامب، إذ لا يوجد إرادة. وبغضّ النظر عن موقف “حماس”، لم ينذر ترامب الفلسطينيين فحسب، بل كل العالم العربي. ولكن، هناك هامش من القدرة على التحرّك الدبلوماسي، ليس أقله تجميد العلاقات مع إسرائيل والإصرار على الالتزام بالقرارات الدولية. وكذلك العمل من خلال “مجموعة لاهاي” والانضمام إليها بهدف إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطين في الضفة الغربية وغزّة ودعم حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير، والتحشيد قانونيّاً وإعلامياً، لكشف الخديعة وكسر الخنجر والمطالبة بضمانات واضحة وتوقيتات للانسحاب الإسرائيلي من غزّة وربط اليوم التالي لوقف حرب الإبادة بالأمم المتحدة، وليس بيد المقاول ترامب ونتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية.

مقالات ذات صلة