
من يقنع هؤلاء وأولئك؟
عمر العمر
حرير- حضُّ الجيش في السودان على نبذ الإصرار على بلوغ انتصار حاسمٍ ليس موقفاً مناهضاً له، كما ليس مسانداً للمليشيا. التشبث بمواصلة الحرب رهانٌ باهظ الكلفة، كما تدلل التجربة، بل هو خاسرٌ. نداءُ وقف الحرب نابعٌ من قناعتين. أولاهما صدأ عقلية الجيش العسكرية وثقافة قيادته السياسية، فكتالوغ إدارة الخلافات الوطنية وتفكيك الصراعات تجاوز حملَ السلاح. هذا أبرز دروسِ الفكر السياسي ما بعد الحرب الباردة. لعل اجتماع نيويورك الرباعي (مصر والإمارات والولايات المتحدة والسعودية) نفض غبار ما تراكمه أدمغةٌ صدئة كترامب ونتنياهو في فلسطين وبوتين في أوكرانيا. كلها محشوّة برواسب استعمارية. لا يقلل من اجتماعات نيويورك حديث الرئيس الأميركي المعاكس داخل المنظمة الأممية. صدأ عقلية الجيش العسكرية يتبدى في الإخفاق في تحقيق انتصار حاسم على نحو يمطّط الأزمة. أما صدأُ الدماغ السياسي فيتمظهر في الفشل في التجاوب مع قوى الثورة. كلاهما، الإخفاق والفشل، يعرّضان الدولة في السودان برمتها حالياً للانهيار. دولٌ أفريقية عدة استوعبت تطور الفكر السياسي فتعافت من ثقافات بدائية أنهكتها طويلاً وكبّدتها كثيراً.
***
لا تستوي الموازاة بين الجيش والمليشيا في القضايا الفكرية، مثلما هي في حالات المساندة أو الإدانة، فالمليشيا تعتاش على ثقافة بدائية بمكوناتٍ إثنية وجهوية. قوات الدعم السريع استنباتٌ حرام جرت تربيته وتسمينه بمال حرام من أجل غايات حرام وفق أخلاقيات الشعب وعقائده. هو تجسيد لازدواجية الاعتماد على العصابات وبسط هيمنة الدولة الوطنية. لذلك يصبح الرهان عليها وصولاً إلى بناء ديمقراطي وهماً يجافي فكر عصر العولمة وثقافته السياسية، فإذا كانت الدول المتقدّمة أضحت إبّان العولمة معنية بتكريس ثقافة الديمقراطية وتعزيز اقتصاد السوق الحر، تجد الدول النامية نفسها مجبرةً على اللهاث للحاق بثقافة العصر إن أرادت البقاء فيه. أول شروط المحاولة الجادّة الحفاظ على سلمها الداخلي ووحدتها والسعي إلى استثمار مواردها.
***
الحفاظ على السلام وفق الفكر السياسي في زمن العولمة لا يُفرض بقوة السلاح، فالتصالح ليس فقط ضمانةً للحفاظ على السلم الوطني، بل هو كذلك نهجٌ ناجع للحفاظ على موارد الشعب، فالحرب لا تهدر موارد الوطن فقط، بل ترهق أيضاً كاهل الشعب بأعباء مالية باهظة، عبر شراء الأسلحة وتعطيل دولاب الاقتصاد. يلتهم الإنفاق العسكري موازنة التعليم والتطبيب وخدمات أساسية أخرى على صعيد البنى التحتية. الترسانة الحربية لا تؤمن سلامة الدول والشعوب، كما أنها لا تحقّق الأهداف السياسية، فالترسانة العسكرية الضخمة لم تؤمن الاتحاد السوفييتي ضد الانهيار، كما أن آليات التقتيل والتدمير الإسرائيلية المتوحشة لم تنجح في قمع نضال الشعب الفلسطيني وحقّه في دولته.
***
فكرُ ما بعد الحرب الباردة يحرّض على تبادل المصالح عوضا عن الحوار بالسلاح على درب تفكيك الخلافات والنزاعات. بل أكثر من ذلك يدفع إلى تعزيز التصالح السياسي عبر التوافق الاقتصادي على نحوٍ يؤمّن المصالح الوطنية. لذلك برزت تكتلات اقتصادية على مستوى القارّات وأُخرى عابرة المحيطات. يساهم هذا النهج الجديد كذلك في التعاون داخل ميادين علمية وإنسانية مغايرة. وتتحقّق كل تلك الإنجازات، ويمكن إنجازها بعدما اقتنعت نخب سياسية بفكر حداثي يتضمّن مناهج أيسر وأنجع لحل الخلافات والنزاعات وتفكيك بؤر الصدامات على الصعيدين، القومي والدولي. لن ينجح بلد في التعاون مع الخارج ما لم ينعم بالاستقرار والسلام. لذلك على كل الدول العمل من أجل تثبيت الأمن الداخلي.
***
من أبرز خلاصات ذلك الفكر الاقتناع بأن حسم النزاعات لا يشترط تحقيق انتصار عسكري حاسم من طرف يلحق بالطرف الآخر هزيمة كاملة. الأيسر والأكثر جدوى القناعة بتبادل الكسب والخسارة. يستبدل هذا التكنيك السياسي الاستراتيجية العسكرية على طريق إعادة بناء شبكات العلاقات. هو تكنيك يستند في الواقع إلى “الكسب المتبادل”، وهي نظرية اقتصادية ليست حداثية، محورها تبادل أرباح في سياق صفقات مشتركة. لكن المشهد العام على صعيد العالم لا يبشّر بالتفاؤل تجاه انتشار هذه الثقافة السلمية، فهناك بؤر عديدة ملتهبة، وعلى نحو ربما أكثر دموية وتدميراً عما كان عليه المشهد إبّان حروب مرحلة استقطاب الحرب الباردة.
***
صحيح أن كل البؤر السابقة والراهنة ملغومة بعناصر كراهيةٍ متماثلة؛ نزاعات إثنية، دينية، مظالم اجتماعية واقتصادية، لكن تفجيرها كلها وراءه نخبٌ ضحلةُ التفكير، ضيقةُ الأفق، مهجوسةٌ بطموحاتٍ غيرِ مشروعةٍ، وتعلي أطماعها الذاتية على المصالح الوطنية. أزمةُ هذه النخب أنها لا تهتم بعذابات شعوبها أو يقاربُ نهمُها للثروة والسلطة الاكتفاءَ أو تعرف أخلاقياتُها الحياء. على النقيض، هي ممتلئةٌ بالجهل، الاستبدادِ والغطرسة والنرجسية كأنّهم كائناتٌ منزّلة. مع هذا الطراز من القيادات لن تجدي كل المبادرات والجهود من أجل إطفاء عذابات الشعوب، ما لم يطرأ تغيير على أخلاقيات تلك القيادات.
***
في الحال السوداني، يجادل أنصار استمرار الحرب بحتمية الانتصار الكامل. تأكيداً على بلوغ هذا الهدف، يرفض كل طرف التلاقي مع الآخر على طاولة مفاوضات. من ثم تنتفي فرص تطبيق مبدأ الكسب المتبادل. لعل المبادرة الرباعية تفتح كوّة لجهة الخروج من مستنقع الحرب عبر وقف النار أولاً. وحدها هذه الخطوة تمهّد الطريق أمام التحاور، وصولاً إلى إلقاء السلاح. ولكن ليس بالضغوط وحدها يمكن بلوغ تلك المراحل، فمن المهم اقتناع قيادات الحرب بمبدأ الكسب المتبادل. إذا كان لأي نخبٍ سودانية مستنيرة القدرة على التأثير، فليس أنبل وطنياً، من إقناع أولئك القادة بالخروج من المشهد السياسي الراهن. أو على الأقل قبول مبدأ الحوار. لا بأس ألبتّة إذا جاء الخروج عبر دربٍ آمن، ولو بعد التفاوض. نداء الساعة الوطنية هو إنقاذ الشعب من العذابات والدولة من الانهيار. هذا ضربٌ من الكسب المتبادل على الصعيد الوطني.
***
المبادرة الرباعية فرصة لبناء اصطفاف وطني جماعي سوداني ضد الحرب ومن أجل السلام والخير والجمال والعدالة. هذه الفوضى المدمرة بقوة السلاح لن يُنتصر عليها إلا بقوة سلاح الأخلاق. هذا السلاح لا يوجد في ترسانات قيادات الحرب وأفئدتهم منه هواء. إعادة تجميع ما تبقى من الشعب داخل صحن السلم أرحم من تركه يغرق في العذاب. إنقاذ ما تبقّى من الدولة أكثر جدوى من رؤيتها تتوغل في الانهيار. إبقاء جذوة الأمل في إعادة البناء أكثر عقلانية من البكاء على الأطلال. الرفق بكل هذه الطغمة الشريرة من أجل تحقيق هذه الغايات أكثر حكمة من التشبث بالثأر أو الإصرار على بسط العدالة.