قرار أممي بالعودة إلى الرشد

محمود الريماوي

حرير- يمثّل القرار الذي أصدره مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، الأربعاء 12 يوليو/تموز الجاري، أوضح ردّ على حملة الكراهية الدينية التي تفشّت في دول أوروبية في العقد الأخير، وأثارت توتراتٍ اجتماعية وعرقية واسعة النطاق، ولم تنجح دول الاتحاد القارّي، ومعها الولايات المتحدة الأميركية، في وقف هذه الحملة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الإخفاق، إذ تعدّاه إلى تسويق ذرائع تسوّغ حملة البغضاء هذه باستخدام ذريعة حرية التعبير. وهذا ما حدث مع جملة وقائع لإحراق الكتاب المقدّس لملياري مسلم، في الدنمارك والنرويج وهولندا، وأخيرا في السويد التي عرفت وقائع متكرّرة، جديدها أخيرا إحراق متطرّف سفيه نسخة من القرآن الكريم تحت حماية الشرطة السويدية، وإمعانا في الاستفزاز المشين، جرت هذه الواقعة أمام مسجد، وصبيحة يوم عيد الأضحى، وذلك في رسالة بشعة مكتملة الأركان، تبدأ بالمساس بالكتاب المقدّس، فالاستهانة بمكان العبادة من جهة ثانية، ثم ازدراء مناسبة عيد المسلمين وتسميم فرحتهم بالمناسبة، من جهة ثالثة.

ورغم إدراك غالبية الدول الغربية أنّ أفرادا متطرّفين أو منضوين في أحزاب يمينية متطرّفة هم من يسعّرون في الأساس هذه الحملة، إلا أنه يتم التساهل مع هؤلاء عقب ارتكاب هذه الوقائع، فيما يجري التشديد عليهم، حين يتعلّق الأمر بالمساس بالنظام العام، ولكأن بثّ مشاعر الكراهية الدينية على رؤوس الأشهاد لا يمسّ النظام العام بشيء.

ورغم أنّ مشروع القرار الذي تقدّمت به باكستان باسم منظمة التعاون الإسلامي لا يسمّي دولة بعينها، وهي السويد، إلا أنّ 12 دولة أوروبية رفضت القرار، وامتنعت سبعة من دول الكاريبي عن التصويت، فيما أيدته 28 دولة، بما سمح بصدوره عن أعلى هيئة حقوقية مختصّة، وبما يشكّل صدمة مستحقة لمن يمتلكون منظومة فكرية صمّاء، مفادها أنّ قيمهم الخاصة وحدها الوعاء والإطار لمنظومة القيم الكونية التي ينبغي أن تسترشد بها الهيئات الدولية.

ورغم رفض الرافضين القرار المتوازن، فإنّ صدوره يخدم في المحصلة دولهم ومجتمعاتهم، إذ من شأنه أن ينزع فتيل التوترات الداخلية، ويرفع الغطاء القانوني عن عبث الاتجاهات الشعبوية المتطرّفة في النسيجين، الاجتماعي والثقافي، وذلك في حالة تكيّف هذه الدول مع منطوق القرار ومضمونه، واستجابة القنوات التشريعية له كما هو منتظر، وبما يضع حدّا للتمييز الذي يجرّم، على سبيل المثال، العداء للسامية، فيما يغضّ الطرف عن موجة الإسلاموفوبيا. كما يخاطب القرار، بصفته العمومية هذه، جميع الدول بغير استثناء، بما فيها التي أيدت القرار، فحيثما هناك تمييز ديني يجب أن يتوقف، وأن تتوقف معه أيّة إثارة لمشاعر الكراهية الدينية.

وهكذا، فالصحيح تجريم كراهية الأديان بعامة، وضمان الاحترام لجميع أتباعها. وعلى النحو الذي عبّر عنه مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، في مداولات النظر في مشروع القرار، والذي اعتبر أن “الخطاب والأعمال الاستفزازية ضد المسلمين وكراهية الإسلام ومعاداة السامية والأعمال والخطاب الذي يستهدف المسيحيين أو الأقليات، مثل الأحمديين والبهائيين والأيزيديين، هي مظاهر تجسّد عدم الاحترام القاطع”، مضيفاً أنّْ “الإساءة لمظاهر معتقداتنا العميقة وتدميرها يمكن أن تفضي إلى الاستقطاب في المجتمعات، ويسبب توترات بالغة”.

من العماء غضّ النظر عن أثر العوامل الدينية في تغذية التوترات الخطيرة، والتي تسود هنا وهناك، فقد جرى استخدام التغطية الدينية لتسويغ الحرب الروسية على أوكرانيا، ويجري استخدام الكراهية الدينية في الأراضي الفلسطينية ضد المسلمين والمسيحيين وقوداً للاستيلاء على الأراضي المحتلة وضمّها من قبل الدولة الإسرائيلية. ويجري في الهند استخدام العامل الديني بصورة شديدة السلبية لتحقيق غاياتٍ انتخابية وسياسية للحزب الحاكم في البلاد، ويجري التضييق على مسلمي الإيغور وبوذيي التبيت في الصين لمنع التعددية الثقافية، وتختلط النزعات العرقية والدينية بصورة مدمّرة في بلدٍ كبير، مثل نيجيريا، وتحرم هذا البلد النفطي من السلام والتنمية.

وبالنظر إلى ما يكتنف العلاقات الإسلامية الأوروبية من حساسية تاريخية، ثم ارتفاع أعداد المسلمين من أعراق شتى في دول القارّة خلال العقود الثلاثة الماضية، فإنّ حملة الكراهية ضدهم لن تكفل حرية التعبير، بل سوف تضمن تغذية التوترات الأفقية والعمودية في تلك المجتمعات، وذلك مع أخذ العوامل الاقتصادية والاجتماعية في الاعتبار، وكثرة من الهيئات الثقافية والاجتماعية والشخصيات الأوروبية المتّزنة تنتقد ذلك وتحذّر منه.

ومنذ مطلع الألفية الثالثة، جرى تحميل المسلمين وزر جماعات جهادية متطرّفة ونشاطات إرهابية لها. وفي تلك الأجواء، جرى اغتنام الفرصة لإطلاق حملة الإسلاموفوبيا التي لم تتوقّف. وها هو الرئيس السابق والمترشح الحالي الأميركي، دونالد ترامب، يصدح مجدّدا، أنه “عازم على حظر المسلمين من دخول أميركا” في حال عودته مجدّداً إلى البيت الأبيض… أجل المسلمين بعامة من غير أي تخصيص، فيما اعترف الرئيس الحالي، جو بايدن، في وقت سابق، بأنّ ما سمّاه الإرهاب الأبيض هو الخطر الأول الذي يُحدق بأميركا.

لقد وضع القرار الأممي لمجلس حقوق الإنسان حدّاً للتملّص الأوروبي الرسمي من تغذية موجة كراهية المسلمين. ومن شأن احترام القرار، والعمل بمقتضاه، أن يوقف تلك اللعبة السمجة التي يخوض فيها هواة ومحترفون في ازدراء الرموز المقدّسة ليس للمسلمين حصرا، بل لسائر أتباع الأديان، وهي رسالةٌ تخاطب مجتمعاتٍ أوروبية وغربية، بيد أنها، في الوقت نفسه، تخاطبنا نحن أيضاً، دولاً ومجتمعات وجماعات وأفراداً، فالتمييز الديني، مثل غيره من أشكال التمييز، أمر مذموم تُنكره الفطرة البشرية، وتحظُره هيئات دولية يُعتدّ بها، ونشارك في عضويتها وفي إصدار قراراتها.

مقالات ذات صلة