تجويع غزة: سياسة الإحتلال الخفية

محمد عايش

حرير- استخدمت إسرائيل أنواع الأسلحة كافة التي لديها في حربها على غزة، بما فيها تلك المحرمة دولياً، كما استخدمت وتستخدم سياسة تقوم على التطهير العرقي والتهجير القسري وفقاً لمبدأ «الأرض المحروقة»، من دون رأفة بالسكان المدنيين ولا بالمنشآت الإنسانية التي يُجرم القانون الدولي استهدافها، لكن السياسة الأخطر من بين كل هذا هي «التجويع» الذي تقوم باستخدامه في شمال قطاع غزة.

إسرائيل لا تقوم فقط بحصار محكم على شمال القطاع، وإنما أيضاً تقوم باستهداف أية مساعدات تحاول الوصول إلى الشمال، وخلال شهور الحرب الطويلة التي شهدها قطاع غزة، لاحظنا أن إسرائيل استهدفت أيضاً قوافل الإغاثة، التي كانت تحاول الوصول إلى الشمال، واستهدفت المدنيين الذين يحاولون الحصول على طعام للعودة به إلى منازلهم في الشمال، كما استهدفت المسؤولين المدنيين الذين حاولوا تنظيم عمليات الإغاثة وتوزيع المعونات المحدودة والقليلة، التي كانت تصل إلى مناطق الشمال.

ما تقوم به إسرائيل في شمال قطاع غزة هي سياسة «تجويع» ممنهجة ومدروسة وليست سياسة عقاب جماعي فقط، وإنما هي مشروع سياسي بالغ الخطورة يستخدم «التجويع» كسلاح ضد المدنيين، ويستخدم «التجويع» والحصار من أجل تحقيق أهداف سياسية عجزت القوة العسكرية المفرطة عن تحقيقها هناك.

في شهر آذار/ مارس اغتالت إسرائيل عدداً من قيادات الشرطة المحلية، وهم ضباط كبار في شرطة غزة، تبين أن لا علاقة لهم مطلقاً بالمقاومة، ولا بالعمليات العسكرية، وإن القاسم المشترك الوحيد بينهم هو أنهم مسؤولون عن تأمين المساعدات وتوزيعها والتنسيق بين العشائر والعائلات الكبرى من أجل ضمان وصول المواد التموينية الأساسية لهم، وتوزيعها بشكل عادل بينهم، بما يضمن للجميع الحد الأدنى مما يبقيهم على قيد الحياة، ويمنع الاستحواذ على هذه المساعدات أو احتكارها من قبل عائلة معينة أو أفراد معينين. أما أبرز هؤلاء المسؤولين فهو رضوان رضوان رئيس شرطة جباليا المسؤول عن تأمين المساعدات في الشمال، وكذلك العميد فايق المبحوح والمقدم رائد البنا وآخرون، وجميعهم من العاملين في مجال إيصال المساعدات وتأمينها وتخزينها وتوزيعها، بما يضمن عدم احتكارها في أيدي فئة من الناس دون غيرها من أبناء الشمال المحاصرين. الحصار والتجويع والاغتيالات، التي تستهدف ضباط تأمين وتوزيع المساعدات والتنسيق بين العشائر كلها مؤشرات، بل أدلة قاطعة، تؤكد أن إسرائيل تستخدم هذه الأساليب المحرمة دولياً، من أجل تنفيذ مشروع بالغ الخطورة في شمال قطاع غزة، حيث أمضت قوات الاحتلال الشهور الأولى من الحرب وهي تقوم بقصف عنيف وأعمى أدى إلى مسح شبه كامل للمنطقة، ومن ثم أجبرت نسبة كبيرة من السكان على النزوح إلى الجنوب ومنعتهم من العودة إلى الشمال، حتى خلال أيام الهدنة في أواخر العام الماضي، ومن ثم تقوم حالياً باستخدام سياسة التجويع والتلاعب بالمساعدات الإنسانية، من أجل استكمال مشروعها الذي لم ينجح بالقصف والمجازر.

المشروع الذي تريد إسرائيل تنفيذه في شمال القطاع هو أن يتحول إلى منطقة عازلة بين مناطق غزة الأخرى ومستوطنات الغلاف الإسرائيلي، ومن ثم تحويله تدريجياً إلى حزام أمني على غرار ذلك الذي كان في جنوب لبنان، خلال الفترة من عام 1982 وحتى عام 2000، ولتحقيق هذه الغاية تقوم إسرائيل بتطهير عرقي في المنطقة، مع تجويع لمن يبقى على قيد الحياة، ومن ثم يتم ابتزاز العائلات والعشائر والأفراد بالمساعدات الإنسانية، ويتم السماح بها للناس شريطة الموافقة على التعاون مع الاحتلال. وبطبيعة الحال لا يبدو أن إسرائيل نجحت في هذه الخطة حتى الآن، لكنَّ المؤكد أنها ستعمل على ابتزاز من تستطيع من الناس عبر التجويع، ومن ثم تقوم بتجنيد من تستطيع من السكان المحليين حتى يتعاونوا معها ومع أجهزتها الأمنية، مقابل تمرير المساعدات لهم وتجنب قصفهم وقتلهم.. وصولاً إلى احتلال عسكري مستقر في الشمال قد يدوم لمدة طويلة، وخلال تلك المدة تحاول إنشاء ميليشيا عميلة مشابهة لميليشيا أنطوان لحد، التي كانت تعمل لصالح الاحتلال في جنوب لبنان قبل أن يتم طردهم وتحرير الجنوب في منتصف العام ألفين.

المؤكد حتى الآن هو أن إسرائيل فشلت في تحقيق أي من أهدافها رغم العدوان العسكري الوحشي المستمر منذ تسعة شهور، ولا تزال تفشل حتى الان في استخدام سياسة التجويع التي تستهدف شمال القطاع بشكل خاص، كما أن العشائر في مختلف أنحاء غزة أكدت مراراً بأنها لا يُمكن أن تقبل بلعب دور «السلطة البديلة» ولا بأن تكون ميليشيا عميلة على غرار ما فعل أنطوان لحد في لبنان.. وهذا يعني أن الاحتلال لا يزال يُسجل فشلاً تلو الآخر في القطاع على وقع الصمود الفلسطيني التاريخي.

مقالات ذات صلة