معركة الأمعاء الخاوية

حيان جابر

حرير- استشهد الأسير والقيادي الفلسطيني خضر عدنان فجر يوم الثلاثاء 2/5/2023، عن عمر يناهز 44 عاماً، بعد خوضه معركة الأمعاء الخاوية أو الاضراب المفتوح عن الطعام 86 يوماً، ليرتفع بذلك عدد شهداء الحركة الأسيرة إلى 236 شهيداً منذ النكسة في 1967، منهم 75 شهيداً نتيجة جريمة الإهمال الطبي المتعمَّد صهيونياً (القتل البطيء). مع ضرورة الإشارة إلى غياب توثيق الانتهاكات والجرائم الصهيونية بحق الأسرى الفلسطينيين قبل النكسة، نتيجة التعقيدات والعراقيل التي فرضها الاحتلال أمام جهود توثيق انتهاكاته بحق شعب فلسطين وأرضها إبّان النكبة، إذ يقدّر نادي الأسير عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال منذ النكبة في 1948 بأكثر من مليون فلسطيني.

تتراوح جرائم قتل الاحتلال الصهيوني لأسرى الحركة الوطنية الفلسطينية بين ثلاث جرائم رئيسية، شبه متساوية في الأثر الإجرامي، أولاها القتل تحت التعذيب، المشرع في قوانين الاحتلال التعسفية والإجرامية، والمتناقضة مع مجمل النظم والتشريعات الدولية والإنسانية. وثانيتها القتل البطيء أو القتل نتيجة الإهمال الطبي المتعمَّد، وجديدها أخيرا جريمة قتل الأسير خضر عدنان، كذلك تتضمن هذه الجريمة ممارسات إجرامية متنوّعة، منها ما كشفت عنه عضو الكنيست الإسرائيلي، رئيس لجنة العلوم البرلمانية؛ داليا إيزيك، في يوليو/ تموز 1997، عن موافقة الاحتلال على تطبيق نحو ألف تجربة لأدوية خطيرة تحت الاختبار الطبي سنوياً على الأسرى الفلسطينيين والعرب في إسرائيل، كذلك كشفت رئيسة شعبة الأدوية في وزارة الصحة الإسرائيلية، أمي لفتات، أمام الكنيست؛ في الجلسة نفسها، أن هناك زيادة سنوية قدرها 15% في التصريحات التي تمنحها وزارتها لتجارب الأدوية الخطرة على الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية سنوياً. ثالثة الجرائم الرئيسية هي القتل العمد للأسرى بالرصاص الحي.

عودة إلى قتل الشهيد الأسير خضر عدنان عمداً صهيونياً عبر منهجية القتل البطيء والإهمال الطبي المتعمَّد، نلحظ بعدين رئيسين، يتعلق الأول بالوضع الفلسطيني العام، الذي دفع كثيرين إلى وصفه بـ “العجز الفلسطيني” عن مناصرة الأسير في معركته، ما أفضى إلى استفراد الاحتلال به وتمكّنه من اغتياله أو قتله، إذ تنطلق هذه التوصيفات من دوافع عاطفية لحظية، تعبيراً عن حالة الغضب والقهر والشعور بالظلم المستمرّ في ظل احتلال صهيوني يمارس تطهيراً عرقياً وفصلاً عنصرياً وترحيلاً قسرياً مستمراً منذ النكبة، لكنه ناتج أيضاً عن تضخم الخطاب الفلسطيني؛ أو قسم منه بالحد الأدنى، تضخماً مبالغاً به.

يخضع شعب فلسطين الأصلي وأرضه لاحتلال كولونيالي واستيطاني إحلالي، ذي ارتباطات وأدوار دولية وعالمية، تجعله قوة احتلال غير مسبوقة تاريخياً؛ إلى حدٍ ما، وهو ما يعكس عدم تكافؤ القوة بين الاحتلال والمحتلين، كما في جميع نماذج الاحتلال الأخرى، إذ يتحكّم الاحتلال بكل مصادر القوة والسيطرة والهيمنة، لذا فجلد الذات على كل جريمة يرتكبها الاحتلال فردياً وجماعياً أمرٌ غير منطقي، لأن قدرتنا على منع جرائم الاحتلال تعني قدرَتنا على التحرّر منه، وبالتالي، التخلص من هيمنته وسيطرته، وهنا مكمن خطأ بعض؛ أحياناً معظم، مكوّنات الجسم السياسي الفلسطيني، التي تروّج قدرتها على ردع الاحتلال، والرد على جميع جرائمه، وكأننا في ظل قوتين شبه متكافئتين، في حين عليها وعلينا التأسيس خطابياً وعملياً لديمومة الفعل التحرّري، بغض النظر عن قدرتنا على ردع الاحتلال، فقوة العمل التحرّري تكمن في استمراريته، وفي تعبيره عن فشل المحتل في تطويع المجتمع، بغض النظر عن عدم تكافؤ القوة والفعل، لأن تحقيق الردع الحقيقي يعني الخلاص من الاحتلال نهائياً.

أما البعد الثاني فيتمثل في طبيعة معركة الأمعاء الخاوية، التي خاضتها ثلة من أبطالنا في سجون الاحتلال، وجديدهم أخيرا الشهيد خضر عدنان، تلك المعركة التي أفضت اليوم إلى نهاية محزنة ومؤلمة لمجمل شعب فلسطين، انتهت باستشهاد أحد أبطالهم. المعركة التي تعدّ أحد نماذج النضال السلمي المعمول به فلسطينياً ودولياً، بهدف كسر سياسيات الاحتلال القسرية واللاإنسانية وغير القانونية، وفق القانون الدولي والعرف الإنساني وحقوق الإنسان المعترف بها دولياً. لكن وعلى الرغم من طبيعتها السلمية، إنها محفوفة بخطر الموت، نتيجة عنف الاحتلال الإجرامي واللامتناهي، لذا فنتائجها لا تقاس وفق منطق تكافؤ الخسائر؛ غير الواقعي أصلا في حالة مجابهة قوى الهيمنة والاحتلال، بل تُقاس بنتائجها المتتابعة، من حيث تقويض قدرات الاحتلال العنيفة والقمعية بعيدة المدى، وفضح ممارسات الاحتلال داخلياً وخارجياً، والتأكيد على فشل جميع وسائل الاحتلال وأدواته القمعية والإجرامية في تطويع المجتمع المحتل وأسره، وفي مقدّمها السجون.

من هنا؛ يجب النظر إلى معركة خضر عدنان بوصفها جزءاً من مجمل نضال شعب فلسطين في مجابهة ممارسات الاحتلال عامةً، وحكومة نتنياهو المسعورة خاصةً، بل قد تكون المعركة الأهم في تقويض هذه الحكومة ومجابهة ممارساتها الإجرامية، لأنها تؤسّس لمرحلة جديدة، تعبر عن فشل الاحتلال في فرض مخططاته داخل السجون وخارجها، إذ أفشلت الحركة الأسيرة مخططات بن غفير وإدارة السجون قبل بدء شهر رمضان، كما فرض الشهيد خضر معادلةً مفادها عجز الاحتلال؛ رغم سياسيات نتنياهو وبن غفير وسموتريتش الفاشية، عن كسر إرادة الأسرى والشعب الفلسطيني، وهو ما يضع الاحتلال وحكومته أمام معادلة جديدة، تكبّل الاحتلال بقيود دولية فرضها نجاح الشعب الفلسطيني في فضح ممارسات الاحتلال؛ إلى دور الاحتلال غير المقصود في فضح ممارساته، عبر سياساته الإجرامية الفجّة والعلنية أمام مرأى العالم ومسمعه أجمع، وهو ما يعني فشل منطلقات خطاب مجمل تيار الصهيونية الدينية الفاشي، الذي بنى شعبيّته في مجتمع الاحتلال ومستوطنيه على معادلة الإجرام سبيلا وحيدا لفرض هيمنة الصهيونية على الفلسطينيين، لأن ديمومة الفعل النضالي بأي شكلٍ كان يعني الفشل في تطويع الفلسطينيين. لذا يعتقد الكاتب أن أسيرنا البطل كان يعي؛ ربما أكثر منا، أهمية المضي في معركته مهما كلف الثمن، لأنها مقدّمة لوضع الاحتلال أمام فشله في تطويع فلسطين وشعبها، رغم سياساته الإجرامية الفجّة والمباشرة والمخفية وغير المباشرة أيضاً.

في الختام؛ لا بد من الإشارة إلى تصريحات زوجة الأسير الشهيد خضر عدنان، التي طالبت باحترام رغبة الشهيد في عدم إراقة الدماء في جميع إضراباته السابقة. وبناء عليه، طالبت بعدم الثأر لاستشهاد الأسير عبر إطلاق الصواريخ التي يتبعها قصف قطاع غزة المحاصر صهيونياً. وهو ما يعبّر عن وعي الشهيد وزوجته بأسس حركة التحرّر، القائمة على مجابهة الاحتلال المستمرة بالوسائل المتاحة، بعيداً عن منطق الثأر، إذ يجب أن يعجز الاحتلال عن قراءة الفعل النضالي بجميع أشكاله، ويضعه أمام حركة تحرر منظمة ومنهجية بعيدة كل البعد عن العفوية والعشوائية التي يفرضها المنطق الثأري والانفعالي.

 

مقالات ذات صلة