أميركا وفلسطين واليوم التالي في غزّة

محمود الريماوي

حرير- طافت، خلال الأسبوعين الماضيين، اللجنة الوزارية العربية الإسلامية، في أربع عواصم، بكين وموسكو وباريس ولندن، وهي عواصم الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. ولوحظ أن الوزراء انتقلوا إلى نيويورك للمشاركة في مداولات الأمم المتحدة، غير أنهم لم يُكملوا مهمتهم بالتوجّه إلى واشنطن لملاقاة المسؤولين هناك، والبادي أن الحلقة الخامسة من الجولة لن تستكمل قريبا، فقد انتقل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الخميس إلى تل أبيب، في جولة جديدة وثالثة له في المنطقة، ما يدلّ على أن لا لقاء مرتقباً ووشيكا بين بلينكن ووزاء الخارجية العرب، ومعهم وزراء يمثلون دولاً إسلامية، منها على الخصوص تركيا.

لم يجر تقديم تفسير أو توضيح بعد، لتوقف الجولة الوزارية من دون الوصول إلى المحطة الخامسة والأخيرة، وهي المحطّة الأميركية، بالرغم من وصول الوزراء إلى نيوريوك، ولم يجر الإعلان عن موعد لاحق لإجراء اللقاء. ولعل التفسير “الصامت” الأكثر شيوعا أن الاتصالات العربية الأميركية لم تتوقّف، ويشارك فيها الرئيس جو بايدن، إضافة إلى رئيس الدبلوماسية بلينكن، مع نشاط ملحوظ لرئيس جهاز الاستخبارات الأميركية، ويليام بيرنز الذي زار القاهرة، ثم الدوحة مرتين، وربما أدّى زيارات أخرى غير معلنة نظرا إلى طبيعة وظيفته، غير أن هذا التفسير الذي لا يخلو من صحة لم يكن ليمنع استقبال أعضاء اللجنة التي تضم ممثلين للدول الإسلامية ومنظمة التعاون الإسلامي، ما يفسح المجال لتفسير آخر، أن واشنطن لم تكن ترغب في إظهار حجم الخلاف بينها وبين ممثلي اللجنة الوزارية، فبينما تتمسّك اللجنة بطلب وقف دائم وفوري لإطلاق النار، ترغب واشنطن في تمديد الهدنة، وفي تبليغ تل أبيب بمحاذير تكرار ما حدث في شمال غزّة من تدمير واسع، ومن استهداف مباشر للمدنيين والمرافق المدنية الإنسانية، بما يشتمل عليه ذلك من تقييد الحملة العسكرية على جنوب القطاع التي ما فتئ نتنياهو وقادة الحرب في حكومته يهدّدون بها، فيما تتفق واشنطن وتل أبيب على مسألة الإفراج عن الرهائن لدى حركة حماس. وبطبيعة الحال، واشنطن في صورة الموقف العربي، وليست بحاجةٍ للتذكير ببيان القمّة العربية الإسلامية الختامي، غير أن الخلاف قد ينشب بشأن المرحلة الأخيرة من الإفراج عن العسكريين الإسرائيليين المحتجزين، إلا أنه خلافٌ قابلٌ للحل، فلطالما تبادلت تل أبيب الأسرى برهائن إسرائيليين لدى الجانب الفلسطيني. وقد لوحظ أن واشنطن بدأت، منذ الأربعاء الماضي، في تقديم عون لقطاع غزّة، ويُفترض أن يكون على ثلاث مراحل، وهو ما لم تُبادر إليه الأطراف الأوروبية التي كانت تسبق الجانب الأميركي في تقديم مثل هذه المساعدات. وليست لهذه المساعدات الأميركية من أهمية خاصة، سوى بما يتعلق بهوية من يقدّمها، أما طبيعتها نفسها، فلن تؤدّي، مثلاً، إلى ترميم المستشفيات وإعادة تأهيلها.

ثمّة مسألة أخرى تحتل أهمية خاصة على الأجندة الأميركية، وتتعلق بمستقبل قطاع غزّة، ما أن يتم التوصل إلى اتفاق إطلاق نار دائم. والراجح أن الجانب الأميركي كان سيتولّى طرح هذه المسألة، لو أن اللقاء مع اللجنة الوزارية قد تم، فسائر التصريحات الصادرة عن بلينكن تشير بوضوح إلى هذا الاهتمام، ومنحه درجة ملحوظة من الأولوية، إلى جانب تسهيل وصول المساعدات، بينما يمتنع الجانب العربي عن الخوض في هذه المسألة، معتبراً أن الأولوية هي لوقف إطلاق النار وتأمين وصول أكبر قدر من المساعدات لسدّ الاحتياجات الواسعة والملحّة لأبناء القطاع، وخصوصا مع حلول فصل الشتاء. ويسترعي الانتباه أن الدعوات العربية إلى وقف إطلاق النار كانت وما زالت بحاجة إلى أن تقترن بالمطالبة بانسحاب القوات الإسرائيلية الغازية، إذ قد تقبل تل أبيب، في وقت ما، وبعد خروج سائر المحتجزين لدى “حماس”، بمن فيهم العسكريون (ضمن صفقة تبادلٍ واسعة) بوقف إطلاق النار، غير أن حكومة نتنياهو سوف تحرص، بعدئذ، على إبقاء قواتٍ لها في غزّة إلى أطول أمدٍ ممكن، وهو ما سيقود حُكما إلى تجدّد المواجهات مع قوى المقاومة، وعندها قد تزعم حكومة نتنياهو إنها قد استجابت لنداء واشنطن والأطراف الدولية والاقليمية، وأوقفت إطلاق النار، لكن الجانب الفلسطيني “لا يريد للحرب أن تتوقّف، وإنه يعرقل وصول المساعدات إلى مستحقّيها”، ما يبين أهمية التركيز على وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية معاً.

وواقع الحال أن واشنطن أخذت أكثر فأكثر تُشهر مسألة ما بعد الحرب، وتقرن وقف إطلاق النار الدائم بضرورة وضع تصوّرات مُسبقة لليوم التالي لما بعد الحرب، وهو ما يتجنّبه الجانب العربي، علماً أنه لا مفرّ من الاستجابة لهذا التحدّي، إن لم يكن اليوم فغداً، إذ لا يتردّد الجانب الأميركي في طرح السلطة الفلسطينية بوصفها جهة شرعية لإدارة القطاع، جنبا الى جنب مع توقف نشاط المقاومة، ومع تنشيط المساعي للذهاب إلى “حل دولتين”، على أن يتم رفد وجود السلطة الفلسطينية بقوات عربية ودولية تتبع الأمم المتحدة ودول يتفق عليها. وهو ما يرفضه الجانب العربي، لأسبابٍ عديدة، يتقدّمها الحرص على أن تكون هذه المسألة بأيدي الجانب الفلسطيني، بمختلف مكوّناته، مع الحذر الشديد من أيّ احتكاك قد ينشأ في ظروف الانتقال الحسّاسة هذه، مع قوى المقاومة في القطاع. إذ يحرص الجانب العربي، في هذه المرحلة، على تعظيم المشتركات مع الجانب الفلسطيني، علماً أن السلطة الفلسطينية قد رفضت ما اعتبرته وصاية دولية قد تُفرَض على القطاع، كما رفضت تولّي المسؤولية سوى في إطار حلّ سياسي شامل يؤدي إلى إقامة دولة مستقلة، تضم الضفة الغربية وقطاع غزّة، وهو ما لم تعقّب عليه حركة حماس.

ولكن، لنكن صرحاء أمام التحدّي الأميركي بضرورة وضع تصوّر مسبق لإدارة القطاع، إذ إن الدعوة إلى شقّ الطريق نحو الحل السياسي الشامل صحيحة، لا ترفضها “حماس” ولا توافق عليها، فيما سيكافح نتنياهو ورهطه من أجل تعطيل المعالجة السياسية بالادّعاء، كما العادة وكما على الدوام، أن التحديات الأمنية لا السياسية هي ما تشغل الإسرائيليين. ولكن يبقى السؤال: في حال نجحت الجهود لتبادل واسع شامل للمحتجزين والأسرى، وفي حال وافق المعتدون الإسرائيليون تحت ضغوط مأمولة (وغير مؤكّدة حتى الآن) على انسحاب مبرمج لقواتهم من قطاع غزّة، فمن سيتولى إدارة الإعمار والبناء والإغاثة وتحلية مياه البحر لتأمين المياه في غزّة؟ ومن سيتولى التواصل مع الأطراف العربية والإقليمية والدولية واستقبال ممثليها في القطاع لتنظيم عملية إعمار كبرى؟ ومن سيتولى الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة وتنظيمها في القطاع والضفة الغربية لإسباغ الشرعية “الدستورية” على من يدير القطاع، بعد أن انتزعت “حماس” بجدارة الشرعية الوطنية؟ هذه تساؤلات برسم الجانب الفلسطيني بمختلف مكوناته، قبل أن تكون برسم الجانبين، العربي والدولي، وليست هناك فسحة طويلة من الوقت للإجابة عنها.

لا شيء ينبئ أن أقصى اليمين الإسرائيلي سوف يتوقّف عن نهجه التدميري للكتلة البشرية الفلسطينية، ولمظاهر الحياة والعمران، ومحاولة تقويض مواد المنعة والصمود، وهو ما يدلّل عليه التخريب واسع النطاق للبنية التحتية في جنين ونابلس وطولكرم شمال الضفة الغربية، جنبا إلى جنب، مع التدمير المنهجي لقطاع غزّة، تطبيقا لرؤية إقامة إسرائيل الكبرى على كامل الأراضي المحتلة بالاستيلاء على أكبر مساحة من الأراضي وموارد المياه وتقليص عدد المواطنين الفلسطينيين، وهي السياسة التي يلتقي عليها نتنياهو وحزب الليكود مع القوى المؤتلفة في حكومته ممثلة بالقوة اليهودية والصهيونية الدينية. وللتذكير، تبنّت الحكومة اليمينية السابقة التي سميت زورا وبهتانا بأنها حكومة التغيير السياسة نفسها، وقد تعاقب عليها كل من بيليد وبينيت، وضمّت ما يسمّى المعسكر الرسمي، بزعامة بيني غانتس، الذي يحظى حاليا بشعبيةٍ واسعة.

مقالات ذات صلة