واشنطن… لحظة فارقة

علي العبد الله

حرير- تواجه الإدارة الأميركية لحظة فارقة آيتها فقدانها، ورئيسها، رأس مالهما السياسي على خلفية تبنّيهما الرواية الإسرائيلية عن عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتاب الشهيد عز الدين القسام، التابعة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يوم 7 أكتوبر في غلاف غزّة، ودعمهما العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة وحمايتهما هجوم القوات الإسرائيلية الوحشي، الذي استهدف البشر والحجر في حرب إبادة جماعية موصوفة، بتبريره بذريعة “حقّ الدفاع عن النفس”، وبرفض دعوات وقف إطلاق النار، استخدمت حقّ النقض (الفيتو) مرّتين في مجلس الأمن، وعرقلت عملية تصويت ثالثة ما لم تفرض صيغتها على القرار، بحيث لا يتضمّن وقف إطلاق النار ويستبعد بندا يجعل الأمم المتحدة مسؤولة عن مراقبة تدفّق المساعدات الإنسانية من دون الإشارة صراحة إلى دور إسرائيل في فحص البضائع، ويدين حركة حماس بسبب الهجوم على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزّة. وهو ما حصل بصدور قرار باهت ركّز على تهيئة الظروف للإسراع في إدخال المساعدات من دون ذكر لوقف العدوان.

لقد وضعت الإدارة الأميركية الولايات المتحدة في موقفٍ حرج للغاية جعلها معزولة عن التيار العالمي الساعي إلى وقف إطلاق النار ووضع القضية الفلسطينية على طريق الحل العادل والشامل، وتراجع نفوذها كما عكسته التصويتات المتتالية في مجلس الأمن، حيث وقفت وحيدة ضد مشاريع قرارات وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث وقفت ضمن أقلية متراجعة. وهذا مسّ هالتها العالمية، مانحا خصومها، روسيا والصين وإيران، فرصة التشهير بها وبمعاييرها السياسية والأخلاقية المزدوجة.

لم تفلح مواقف الإدارة الدبلوماسية والإعلامية بخصوص حماية المدنيين وإدخال مساعداتٍ أكثر لهم في التخفيف من مأزقها، كون ما تقوله دبلوماسيا وإعلاميا تمحوه بتصرّفها الميداني: جسر جوي لنقل الأسلحة والذخائر، 230 رحلة شحن جوي للذخيرة والأسلحة التي يستخدم بعضها لأول مرة، أرسلت أكثر من خمسة آلاف قنبلة من نوع “مارك 84″، وهي من القنابل التي يزيد وزنُها على 900 كيلوغرام، وصواريخ للقبّة الحديدية، فضلاً عن 20 شحنة بحرية، وفتح مخازن الجيش الأميركي في إسرائيل أمام جيش الأخيرة، قال محلّلون إنّ الدولارات بدأت تختفي من ميزانية بعض الأقسام في وزارة الدفاع بسبب دعم الحرب الإسرائيلية في غزّة ومواجهة التهديدات المتوقّعة في المنطقة، إضافة إلى حاملات الطائرات والبوارج والسفن الحربية والغوّاصات التي أرسلت إلى شرق المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي، والدعم المالي 14.300 مليار دولار، والتنسيق السياسي والعسكري الذي عكسه الجسر الجوي السياسي بزيارات أركان الإدارة لإسرائيل، من الرئيس بايدن إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن (خمس مرّات)، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان (ثلاث مرّات)، ووزير الدفاع لويد أوستن (مرّتين)، ورئيس أركان الجيش، الجنرال تشارلز براون، ورئيس وكالة الاستخبارات وليام بيرنز، الذين وضعوا على الطاولة الخطط الحربية والخرائط الميدانية ودفتر اليوميات. هذا بالإضافة إلى عشرات المكالمات الهاتفية الطويلة. لقد تدخّلت الإدارة في التخطيط للعدوان، وشاركت في إدارته وحددت هدفه وربطت وقفه بـ: استسلام “حماس” وتسليم المقاتلين الذين نفذوا عملية طوفان الأقصى، وفق وزير خارجيتها، بلينكن، فغدت طرفا في الإبادة الجماعية القائمة.

أثار موقف الإدارة المنحاز للعدوان الإسرائيلي ودعمه من دون قيدٍ أو شرط ردود فعل داخلية وإقليمية ودولية، حيث أرسل عشرات الموظفين في وزارة الخارجية رسائل للرئيس ووزير خارجيته يحثونه على إعادة النظر في مواقف الإدارة من العدوان الإسرائيلي، ويطالبونهما بالعمل على وقفه. كما أرسل مشرّعون من النواب والشيوخ الديمقراطيين رسائل يطالبون الإدارة بالتدقيق في استخدام إسرائيل الأسلحة والذخائر الأميركية؛ كذلك فعل عشرات الموظفين في وزارة الداخلية. وقد بدأ خبراء قانونيون مستقلون في فحص ما إذا كانت الولايات المتحدة تنتهك قوانينها الخاصّة، وكذلك معاهدات الأمم المتحدة، عندما تنقل إلى إسرائيل القنابل التي استخدمتها في المناطق المدنية.

هذا، وشهد الحزب الديمقراطي انقساما عميقا في الرأي بين التيار التقدمي والشبابي، الذي رفض موقف الإدارة المنحاز لإسرائيل، وأركان الإدارة، الذين انحازوا لإسرائيل، وتبنّوا السير في العدوان حتى تحقيق هدفه. وقد زاد حرج الإدارة خروج تظاهرات حاشدة في مدن رئيسة في الولايات المتحدة، تطالب بوقف الحرب، نظّمها وشارك فيها يهود أميركيون، وتقديم مركز الحقوق الدستورية شكوى قانونية ضد بايدن وبلينكن وأوستن في محكمة مقاطعة كاليفورنيا، تتّهمهم بالتواطؤ في الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، وتراجع شعبية الرئيس في استطلاعات الرأي، وهو على أبواب حملة انتخابية صعبة. وقد عكست تصويتات مجلس الأمن والجمعية العامة تفكّك الإجماع الغربي المؤيد لإسرائيل، بتصويت دول أوروبية على الضد من الموقف الأميركي، لصالح مشاريع قرارات وقف إطلاق النار، وامتناع بعضها عن التصويت، كان للصور المروّعة عن الدمار واستهداف المدنيين والبنى الصحية والتعليمية والخدمية دورا هاما في تحريك الشارع الغربي وضغطه على حكوماته للعمل على وقف العدوان، وتبنّى الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان قرارًا يعتبر تصرّفات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني إبادة جماعية. وبروز دول الجنوب العالمي في الجمعية العامة وتصويتها لصالح وقف الحرب وحلّ القضية الفلسطينية حلا عادلا، زاده وزنا وقوف الصين وروسيا مع وقف العدوان.

لم تتوقّف الإدارة الأميركية عن دعم العدوان واستمراره وتذخيره وتغطيته سياسيا وإعلاميا، وقالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إنها زادت شحناتها من القنابل الصغيرة التي تزعم أنها قنابل أكثر ملاءمة لبيئة المدن الحضرية مثل غزّة، بل لجأت إلى تكتيك دبلوماسي بالحديث عن اليوم التالي للحرب، وتقديم اقتراحات وتصورات قائمة على تحقيق هدف إسرائيل سحق “حماس” وإنهاء دورها السياسي في القطاع، والبحث عن بديل يتحمّل تركة مثقلة بالمآسي والدمار. بدأت بالحديث عن رفضها احتلال إسرائيل قطاع غزّة أو اقتطاع أجزاء منه أو إقامة منطقة عازلة على أراضيه أو تهجير سكّانه ومطالبة إسرائيل بتغيير شكل هجومها من الاجتياح البرّي الواسع إلى عملياتٍ نوعيةٍ ومركّزة، وصف الرئيس الأميركي القصف الإسرائيليّ بالعشوائيّ، في محاولة للنأي بالنفس عن خطط حكومة إسرائيل، لكن من دون أن تضغط لوقف القتل والتدمير وترك فضاءٍ مناسبٍ لبقاء السكان وعيشهم، وعادت إلى الحديث عن حلّ الدولتين الذي ساهمت في قتله وتشييع رفاته، وسعت إلى ترميم الجسور التي تآكلت بينها وبين الدول العربية والإسلامية ودول الجنوب العالمي عبر الحديث عن حماية المدنيين وإدخال المساعدات، فالحديث السياسي والدبلوماسي في واد والسلوك العملي، دعم العدوان والتمسّك بأهدافه، في واد آخر. وهو ما لم ينجح في استدراج مواقف وعروض إقليمية أو دولية متفهّمة أو متفاعلة مع اقتراحاتها لليوم التالي، وقد تجلّى الفتور في عودة بلينكن من جولاته خالي الوفاض، واستقبال السعودية والإمارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والاتفاق معه على سياسة نفطية هدفها رفع الأسعار، وتعزيز العلاقات مع الصين، ورفض دول عربية، مصر والسعودية والإمارات، وغربية، فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، الاشتراك في تحالف “حارس الازدهار”، الذي أعلنته الإدارة لحماية الملاحة الدولية في باب المندب والبحر الأحمر من هجمات الحوثيين.

يكمن مأزق الإدارة الأميركية ونقطة ضعفها في اجتماع عوامل شديدة الحساسية والدقّة تقيد حركتها وقدرتها على تسويق وجهة نظرها وفرضها بشأن اليوم التالي، أولها من الحليف اللدود، نتنياهو، الذي يتمسّك بشروطه لإنهاء الحرب، والتي يعتبرها قارب نجاة له من الإقالة والمحاسبة، ورفضه إشراك السلطة الفلسطينية في أي حل مستقبلي للوضع في القطاع، وعدم قدرة بايدن على الضغط عليه في ضوء اقتراب الحملة الانتخابية الرئاسية، وحاجته لحشد المؤيدين وعدم استفزاز الحزب الجمهوري، الذي حرّك دعوى في الكونغرس لإقالته، وعرقل تمرير رزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا. وثانيها، عدم وجود استجابة عربية أو دولية لتصوّرها لليوم التالي بتحمّل مسؤولية إدارة قطاع غزّة. وثالثها، رفض السلطة الوطنية الفلسطينية لعب دور أمني في القطاع ما لم يكن جزءا من حلّ شامل، ورابعها وجود قوى دولية وإقليمية لها مصالح خاصة تتعارض مع المصالح الأميركية وتمتلك قدراتٍ لتحدّي الهيمنة الأميركية، وفرض بعض شروطها أو عرقلة التوجّه الأميركي. وخامسها، وجود قوى وأذرع إيرانية في عدة دول في الإقليم أخذت على عاتقها استفزاز القوات الأميركية بقصفها بالصواريخ والمسيرات الانتحارية، تعرّضت القواعد الأميركية منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة أكثر من 120 هجوما، لدفعها إلى الخروج من الإقليم أو الانخراط في حربٍ لا تريدها، والمناوشات بين حزب الله والقوات الإسرائيلية التي تهدد بانفجار مواجهة شاملة. وقد جاء حرج موقفها ودقّته من اعتبارها هدف عملية طوفان الأقصى ضرب خططها في الإقليم وخدمة خصومها، ما جعلها ترى في “حماس” تهديدا للأمن القومي الأميركي، ودفعها إلى تأييد العدوان الإسرائيلي وأهدافه، وهي في ذروة مواجهة مع تحدّيات دولية ومنافسات جيوسياسية وجيوستراتيجية مع روسيا والصين وإمكانية استثمارهما التحوّل الذي فرضه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، بدءا بتحوّل تركيز الإعلام العالمي عن ما يجري في أوكرانيا، وأن ما تفعله إسرائيل في القطاع فاق كثيراً ما قام به الجيش الروسي في أوكرانيا، وارتياح موسكو لتحويل كمّيات هائلة من الذخائر والأسلحة إلى إسرائيل، بدلاً من توجيهها إلى أوكرانيا، وعجز بايدن عن تمرير حزمة مساعداتٍ ماليةٍ في الكونغرس، بقيمة مائة وستة مليارات دولار، منها نحو 64 ملياراً للحرب في أوكرانيا، واضطرارها للجوء إلى الصين، والاستعانة بها لإقناع إيران بلجم الحوثيين، ووقف تهديد الملاحة الدولية.

مقالات ذات صلة