حسابات واشنطن وتل أبيب وموسكو في الضربة الأميركية المحتملة

بدأ التحضير عملياً للضربة الإسرائيلية على مطار “التيفور” عبر إطلاق طائرات “الدرونز” فوق محافظتي عكار وبعلبك الهرمل في لبنان، يوم الجمعة الماضي، أي عشية الهجوم بالأسلحة الكيميائية على دوما. وحرصت الحكومة الإسرائيلية على استغلال ما يحصل في الغوطة الشرقية منذ السبت الماضي عبر تصريح وزير الأمن العام جلعاد أردان، بـ”ضرورة تدخل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لوقف الإبادة الجماعية في سورية”.

ومع أن الأولوية الأميركية هي وضع خطوط حمراء لردع النفوذ الروسي، إلا أن معركة إسرائيل هي عدم السماح لإيران بتوسيع انتشارها العسكري على الأراضي السورية. هناك ثلاثة أهداف رئيسية لهذه الضربة الإسرائيلية: أولاً تحدي موسكو للمرة الأولى منذ تدخلها العسكري في سورية في شهر سبتمبر/ أيلول 2015، وذلك من خلال عدم إبلاغ الكرملين مسبقاً بالعملية وتحليق طائرات “أف 15” الإسرائيلية على طول الساحل اللبناني لتفادي الرادارات الروسية. والثقة اهتزت بين روسيا وإسرائيل في شهر فبراير/ شباط الماضي بعد إسقاط طائرة “أف 16” الإسرائيلية من قبل النظام السوري الذي استخدم نظام دفاع صاروخي روسي الصنع “أس 400”.

ثانياً، تسعى إسرائيل لعرقلة أي انسحاب أميركي فوري من سورية. فالاتصال الهاتفي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان متوترا في 3 إبريل/ نيسان الحالي، أي يوم إعلان ترامب بشكل مفاجئ عن أنه سيسحب القوات الأميركية من سورية “في وقت قريب جداً”. فإسرائيل تخشى من أنه سيكون عليها مواجهة إيران وحدها في حال حصل هذا الأمر. ومجرد إبلاغ إسرائيل البيت الأبيض، لا الكرملين بهذه الضربة مسبقاً، يعني محاولة توريط إدارة دونالد ترامب في الحرب السورية وتطوع إسرائيلي لخوض حرب بالوكالة نيابة عن واشنطن. ثالثاً، ولو بأقل حسابات استراتيجية، ضربة مطار “التيفور” أعطت الحكومة الإسرائيلية فرصة استثنائية لصرف الأنظار عن استخدامها المُفرط للقوة ضد المتظاهرين الفلسطينيين في غزة.

لكن أبعد من هذه الأهداف المباشرة، إن الغاية الاستراتيجية الرئيسية هي استعادة تقاطع المصالح الإسرائيلية – الأميركية في سورية. التباعد الأميركي – الإسرائيلي بدأ مع إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وزادت وتيرته مع اتفاق وقف إطلاق النار الأميركي – الروسي جنوب غربي سورية، الذي تم الإعلان عنه في شهر يوليو/ تموز الماضي. إسرائيل في كل تلك المراحل كانت تنسق ضرباتها داخل سورية مع الكرملين وليس البيت الأبيض، لكن مع الانهيار التدريجي للتنسيق الروسي – الأميركي ووصول التوتر بين واشنطن وموسكو إلى مستويات غير مسبوقة، قررت إسرائيل الانحياز مجدداً للدور الأميركي. وبالتالي مع تسلم مستشار الأمن القومي الجديد جون بولتون منصبه وتسلم مايك بومبيو قريباً وزارة الخارجية وتعيين ديفيد شينكر في منصب مساعد وزير الخارجية، هل يكتمل نصاب توريط واشنطن في مواجهة سورية، أو ستظل الكفة لصالح وزارة الدفاع (بنتاغون) في قرارات الحرب في الشرق الأوسط؟

التحدي الداخلي في واشنطن يفيد بأن ترامب رفع السقف عالياً عبر تصريحاته وتغريداته في الأيام الأخيرة، وبالتالي من الصعب عليه التراجع عن تنفيذ ضربة ما ضد النظام السوري في ظل الضغوط في الكونغرس وإصراره على ألا يكرر تجربة أوباما في التعامل مع الخطوط الحمر في سورية. إذاً يبدو قرار الضربة متخذاً، وبالتالي يضع “بنتاغون” خيارات محتملة وهناك تنسيق مع باريس ولندن لاحتمال تنفيذ عملية مشتركة، والسؤال عن طبيعة وعمق هذا الهجوم الأميركي وماذا سيكون رد فعل موسكو التي قد لا يكون بوسعها تحمّل ضربتين متتاليتين بدون محاولة رد الاعتبار لنفوذها. مدمرة “دونالد كوك” الأميركية، التي تحمل صواريخ موجهة، تُرابط حالياً في شرق البحر الأبيض المتوسط، ويؤكد “بنتاغون” إرسال مدمرة “بورتر” في الأيام المقبلة. هذا يعني أن واشنطن قد لا ترغب بمواجهة أو استفزاز موسكو في الأجواء السورية. السيناريو الأول هو تكرار مشهد ضربة مطار الشعيرات العسكري، الذي حصل في 7 إبريل 2017، عبر إطلاق البحرية الأميركية صواريخ “توماهوك” مع الفارق أن الاتصالات الأميركية – الروسية كانت مفتوحة العام الماضي وأبلغت واشنطن موسكو بالضربة قبل حصولها لإخراج القوات الروسية من المطار.

الأهداف الأميركية المطروحة تراوح بين ضرب مواقع عسكرية لها دور في تجهيز واستخدام الأسلحة الكيميائية، أو شل قدرة النظام السوري في استخدام الطائرات الحربية. واشنطن تعطي موسكو إنذاراً مسبقاً عبر تحذيرات معلنة من دون تحديد زمان الضربة ومكانها. هل الغارة الإسرائيلية على “التيفور” ستعطي أرجحية لحجة “بنتاغون” بعدم ضرورة توجيه ضربة عسكرية كبيرة بعد ساعات من قصف المطار، أم أن عدم وجود رد روسي على إسرائيل قد يشجع واشنطن على تكرار العملية العسكرية بأهداف تتناسب أكثر مع المصالح الأميركية؟ تفادي السيناريو الأسوأ يحتاج إلى تواصل عسكري أميركي – روسي إذا لم تكن هناك إرادة للتحاور على المستوى السياسي في هذه المرحلة.

الضربة الأميركية، إن حصلت أم لا، تؤكد مرة أخرى على ضرورة بلورة سياسة إدارة ترامب في سورية بعد توجيه هذه الرسالة إلى موسكو التي هي في موقع دفاعي للمرة الأولى منذ تدخلها في سورية. هل ستؤدي الضربة الأميركية إلى تسريع أو تأجيل قرار ترامب الانسحاب العسكري من سورية؟ قد لا يكون للضربة الأميركية تأثير مباشر في المدى المنظور، لكن على الأرجح ستسرّع قرار الانسحاب على المدى المتوسط. التحدي بالنسبة لإسرائيل وأميركا في سورية أنه يمكنهما تنفيذ ضربات جوية موجعة، لكنهما لا يملكان القدرة الميدانية على تعديل ميزان القوى. ولا يوجد حتى نية أو رغبة أميركية بالدخول على خط الحرب السورية، إلا إذا نجحت إسرائيل بإقناع إدارة ترامب المتجددة بالدخول على الخط لردع إيران. وهذا الأمر يبدو مستبعداً حتى الآن. تسرّع إسرائيل بالانحياز لأميركا على حساب روسيا قد يضر بالمصالح الإسرائيلية على المدى الطويل، لأن بقاء روسيا في سورية قد يكون أطول من بقاء الولايات المتحدة.

مقالات ذات صلة