حزب الله واستراتيجية القضم

باسل.ف.صالح

حرير- لطالما اختصر الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، النظام، وأخذه تحت عباءته، وأعاد إنتاج خطاب السلطة في لبنان. ولطالما تموضع خلف درعٍ سلطويٍ أطلّ من خلفه على الجمهور، اللبناني والعربي، الذي يحاول المستحيل لتغيير حتى تفصيل صغير من الواقع المهترئ الذي يعيشه. مارس نصرالله الاستراتيجية التصاعدية ذاتها خلال التصويب على الانتفاضات والثورات، خصوصًا في العواصم الأربع تحت النفوذ الايراني. ابتداءً من الاتهام المستمر لانتفاضات الشعب العراقي، مرورًا بقتاله إلى جانب النظام السوري في رحلته لإبادة الشعب قبل الثورة عليه وإثرها. مرورًا، طبعًا، بالهجوم على الانتفاضة اللبنانية، وتبنّيه الكامل للنظام والطبقة الحاكمة، قبل أن يأخذ هو وبقية شركائه في السلطة نفسًا سمح لهم بالعودة إلى حالة استباحة البلاد، وإلى التطبيع والاعتراف والتخلي عن مساحات بحرية وثروات كامنة هي ملك الدولة والشعب اللبناني. ناهيك اليوم عن تبنّيه التام رواية النظام الإيراني الذي يستتبعه، ووقوفه إلى جانبه خلال محاولات هذا النظام المستمرّة في قمع الشعب والهيمنة على نسيجه الاجتماعي والثقافي التعدّدي وشعوره القومي، والتي يثور الشعب الإيراني اليوم لتغييرها.

ليست هذه مواقف خاطئة تبنّاها نصرالله في لحظة تخلٍّ. بل استراتيجية ثابتة تختمر منذ بداية هيمنته على السلطة اللبنانية، وتأديته دورًا حاسمًا كابحًا للتغيير الذي يلبّي آمال الناس ومصالحهم في المحيط العربي، فيضع جمهوره، وأسلحته، وأمواله، ومليشياته، في مواجهة الإرادات الشعبية، محاولًا الالتفاف عليها، إما باتهامها وتخوينها، أو بتمييعها وتسطيحها، بعد أن يكون قد تدرّج في مواقفه ضدها، من إعلان تفهّمه لها في البداية، إلى تخوينه لها على مشارف النهاية.

فعلى سبيل المثال، نذكر جميعنا كيف تدرّج خطاب نصرالله تجاه الثورة السورية، فبدأ بالانتقال من “تفهّم” مشروط إلى اتهام بالعمالة والتآمر جرّاء انصياع الثوار لدول خليجية تحرّض على الأسد ونظامه، والتي رافقها بحملة تطهير مذهبية واسعة، خصوصًا في المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية بغية انجاز التموضع الديموغرافي المذهبي الذي يكفل له، وللاحتلال الإيراني من خلفه، بسط هيمنتهما. كما لا يمكن نسيان مواقف نصرالله خلال الانتفاضة اللبنانية، حين حاول إظهار وجه المتفهّم مآسي الشعب في البداية، قبل أن يعود فينقلب عليها لاحقًا، فيأخذ على عاتقه حماية النظام والحكومة ورئاسة الجمهورية. وهو ما يعلن، بصريح العبارة، أنه يستخدم استراتيجية واحدة في مواجهة الانتفاضات والحركات التغييرية فترة الربيع العربي وما تلاها، أي الدفاع عن اللحظات الأولى ومن ثم شيطنة كل ما يليها، وصولًا إلى اتهامها.

تعكس هذه التدرّجات تكتيكًا من تكتيكات القضم التي يبرع نصرالله في ممارستها. دور المتفهّم، ولاحقًا دور المشكّك، وفي الأخير دور المتّهِم، من دون وجه حق في أي من هذه الأدوار، فهو يحاول امتصاص أي فعل سياسي يقلقه، قبل أن يعبّد الطريق بهدف تحيّن فرصة الانقضاض عليه. وهنا يندرج خطاب اتهامه الانتفاضة اللبنانية بانصياعها للسفارة الأميركية. علمًا أن السفارة نفسها كانت رأس حربة اتفاق ترسيم الحدود الذي وافق هو وحزبه عليه، على اعتبار أنه يشكّل انتصارًا حاسمًا. وعلمًا أيضًا أن المجتمع الدولي ما زال يلعب دورًا منقذًا لهذه الطبقة الحاكمة وعلى رأسها نصرالله نفسه! فنصرالله يحاول شيطنة أي فعل سياسي تغييري لبناني من موقع صاحب السلطة، خصوصًا الانتفاضة التي تشكّل الهاجس الذي يسيطر على تفكيره وتفكير حلفائه وأخصامه في السلطة.

من خارج السياق، أعاد نصرالله في خطابه أخيرا إحياء الانتفاضة اللبنانية من موقع اتهامها، وهي التي كانت من دون أي فاعلية تُذكر مؤخرًا. هذا الهاجس الذي ينمو في خطابه يعكس توترين: توترا ناتجا من القلق تحسبًا من أي تغيير جذري على مستوى المشهد السياسي الإيراني، وتوترا ناجما عن احتمال أي انفجار شعبي لبناني في المقبل من الأيام، فترجمه بهجوم استباقي من خلال دق إسفين بين جمهوره وبين أي فعل اعتراضي.

فالهاجس الأساس عند نصرالله، وما يقلقه في بلد الطائفية والمناطقية، الغليان المستمر والمستتر في الشارع اللبناني عمومًا، والشارع الشيعي خصوصًا. فهو قلق من تكرار مشهد أول أيام انتفاضة تشرين، حين انفجر الشارع الشيعي وشكّل وجه التغيير الجذري بدخوله إلى مكاتب وجوه سياسية جنوبية محسوبة على حزب الله وحركة أمل ومنازلها وممتلكاتها، تلك الجذرية التي كانت مرجّحة للانتشار لو لم يستطع الثنائي الشيعي قمعها بسياسة الترهيب والترغيب والتلويح بالسلاح، وبالخطاب المذهبي التحريضي، وصولًا إلى الهجوم على الساحات وحرق الخيم وتهديد الناشطين وأهاليهم … إلخ.

لربما يطلق حسن نصرالله النيران على أي انتفاضة لبنانية من بوابة اتهامها بإحداث الفوضى، وفق استراتيجية تهدف إلى قضم كل ما يمكن أن يشكّل خطرًا عليه، وعلى نظام فاسد يشكّل هو نقطة ارتكازه وقوته، إلا أن اللبنانيين في وادٍ، والسلطة وعلى رأسها نصرالله في وادِ آخر. فاتهاماته لم تعد تنطلي على أحد، ولم تعد تشكّل أي حرج، خصوصًا أن الفوضى المؤسّساتية والدستورية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي سبقت الانتفاضة والتي تلتها، نتيجة إخفاقه هو والطبقة الحاكمة في اعتماد أي صيغة أو انجاز أي ملف أو انتخاب أي رئيس للجمهورية أو تشكيل أي حكومة، بما زاد الاحتقان الشعبي، ولم يسهم في وقف حدّة الانهيار أو تلطيفها. كما وأن استمرارية هذه الحالة، بما تشكله من ضغط متعاظم على الناس جرّاء القرارات والموازنة الارتجالية التي وضعتها الحكومة من دون أية دراسة اقتصادية جدّية، كلها توحي بأن البلاد ستدخل في مرحلة تضخم قياسية جديدة، قد تفتح الباب أمام ثورةٍ شعبيةٍ عارمة تتهيأ لها ظروف مساعدة في إيران، ولا يمكن لكل استراتيجية نصرالله أن تقضمها في لبنان.

مقالات ذات صلة