موقف إسبانيا المتفرد

مكرم الطراونة

حرير- خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي استمر لأكثر من عامين، برز موقف إسبانيا متقدما على جميع الدول الأوروبية الأخرى، وقد استند ذلك الموقف إلى القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، وإلى التزام أوروبا بالقيم، وبالدبلوماسية والعدالة وحقوق الإنسان.

خلال الشهر الماضي، أعلنت الحكومة الإسبانية عن تسعة تدابير فورية تهدف إلى وقف الإبادة الجماعية في غزة، ودعم الشعب الفلسطيني، اشتملت على حظر بيع الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية لإسرائيل، وحظر نقل الإمدادات العسكرية عبر الموانئ والمجال الجوي الإسباني، ومنع دخول السفن التي تحمل الوقود المخصص لجيش الاحتلال إلى الموانئ الإسبانية، ومنع الطائرات التي تنقل مواد دفاعية إلى إسرائيل من دخول الأجواء الإسبانية، وحظر دخول أشخاص متورطين في الإبادة الجماعية وجرائم حرب إلى التراب الإسباني.

التدابير شملت كذلك حظر استيراد منتجات من المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، وتقييد الخدمات القنصلية للمواطنين الإسبان في المستوطنات غير القانونية، وزيادة المساعدات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين عبر دعم “الأونروا”، ومشاريع التعاون الزراعي والصحي مع السلطة الفلسطينية، والتدخل القضائي والمشاركة في المحاكم الدولية للتحقيق في الانتهاكات المحتملة للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان المرتكبة من قبل إسرائيل في غزة، واستضافة وتحفيز مبادرات دبلوماسية لمناقشة حل الدولتين، والضغط الدولي لإنهاء الحرب وتخفيف المعاناة، والدعوة لتعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل إذا لم يتوقف العدوان.

الموقف الإسباني فاجأ العديد من الدول، بما فيها كيان الاحتلال نفسه، ولكن مدريد لم تتخذ هذه الخطوات من العدم، بل اعتمدت على أسس صارمة، أرادت لها أن تكون دائما ضمن معايير العالم في التعامل مع الأزمات والصراعات التي تنشب في أي مكان، وأولها القانون الدولي وحقوق الإنسان، فهي اعتبرت أن العدوان العسكري الإسرائيلي تجاوز الحدود، وينطوي على انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، من القتل المدني، وتدمير البنى التحتية، والتهجير القسري.

كما أن هناك المسؤولية الأخلاقية، فإسبانيا استندت إلى إدراك أن ضمان الحماية للسكان المدنيين والامتناع عن استخدام القوة بشكل مفرط هو جزء من التزام أخلاقي لأي دولة ديمقراطية، خصوصا في إطار القيم الأوروبية التي تؤكد الكرامة الإنسانية والعدالة.

هذا الموقف هو ما تنطوي عليه القيم الأوروبية المشتركة التي كانت تدافع دائما عن حقوق الإنسان، وسيادة القانون، والشرعية الدولية، وحماية السكان المدنيين، والالتزام بالدبلوماسية والحل السلمي للنزاعات، لذلك كان الموقف الإسباني يظهر الرغبة في أن تكون أوروبا فعالة في إيجاد حل للعدوان الإسرائيلي على غزة، وأن تسهم بإيقاف هذه الحرب، لا أن تكون مجرد مراقب أو متفرج.

في طريقها لتسجل مواقف سياسية وإنسانية لافتة وغير مسبوقة، رأت إسبانيا أن المعايير القانونية لا تكفي إن لم يكن هناك إطار سياسي يضمن السلام الدائم، وتحقيق حل الدولتين، يسبقه اعتراف دولي بدولة فلسطين، ما سيؤدي بالضرورة إلى الضغط على إسرائيل للتراجع عن الأنشطة التي تقوض هذا الحل، لذلك جاء موقفها واضحا من العدوان.

في إدارته لمعركته التي أرادها محرقة كاملة وإبادة جماعية غير مسبوقة للشعب الفلسطيني، استطاع الكيان المجرم أن يبتز دولا عديدة، ألمانيا مثلا، التي لم تستطع أن تقدم شيئا يذكر في العدوان على غزة، وذلك بسبب الحساسية التاريخية تجاه اليهود، و”عقدة الذنب” التي يبدو أن الكيان لن يسمح لها بالخلاص منها. إيطاليا، أيضا، وأطراف أوروبية أخرى، ظلت أكثر ميلا للحفاظ على علاقات تقليدية مع إسرائيل ودعم ما تسميه “حقها في الدفاع عن نفسها”، متناسية، أو متعامية، عن أن ما تسميه “حقا”، كان كفيلا بإزهاق أرواح أكثر من سبعين ألف فلسطيني، وتشريد مليون ونصف المليون، وتدمير أكثر من تسعين بالمائة من قطاع غزة. أما إسبانيا، فقد انفردت من بين جميع الدول لتقدم نموذجا ناصعا في المثالية والانحياز للإنسان وحقوقه.

شكرا إسبانيا.

مقالات ذات صلة