“الجينوسايد”… التعريف والمؤشّرات

عمر حمادي

حرير- لم يكن العالم حتى العام 1942 قد عرف بعد المصطلح الأكثر تردّدا في منطقتنا خلال العشرين عاما الماضية “الجينوسايد” (الإبادة الجماعية). في ذلك العام، ومن وحي ما شهده من أحداث تسببت بمقتل عائلته وأصدقائه في معسكرات الاعتقال النازية، ابتدع الباحث والقانوني رافاييل ليمكين هذا المصطلح، عبر دمج معنيين لكلمتين لاتينيين، “جينو” (أو الجين)، و”سايد” وتعني القتل، لتأتي الكلمة الجديدة بمعنى مستحدََث وذي دلاله على قتل “الجين” أو النسل لجماعة ما بغرض منع استمراره.

تولى ليمكين، في هذه الفترة، مهمّة التعريف بما يسميه القانونيون والباحثون اليوم أم الجرائم، وتوّج عمله بـ”المؤتمر الدولي لجريمة الجينوسايد” الذي نظّمته الأمم المتحدة العام 1948، والذي عرّف هذه الجريمة ووضع قواعدها. وفي الحقيقة، لا يختلف التعريفان الموضوعان للجينوسايد الذي أوجده ليمكين والآخر الذي تبنته الأمم المتحدة كثيرا، اذ إنهما جاءا متطابقيْن في التركيز على نية تدمير مجموعة عرقية أو إثنية أو قومية أو دينية معينة، سواء كليًا أو جزئيًا. بيد أن بعض أجزاء التعريف ما تزال مفقودة، خصوصا تلك التي تكمن في المعنى الأساس الذي حاول ليمكين إيصاله.

كان ليمكين واضحا في قوله إن تدمير الجماعة يستهدف أسس حياة هذه الجماعة. بمعنى آخر، يستهدف التدمير هوية الناس ووجودهم في الماضي وقت حدوث عمليات الإبادة والاستهداف، وفي الحاضر حيث العمليات التي قد تكون مستمرّة وفي المستقبل أيضاً. ولا تحدُث هذه الإبادة فقط عبر العنف المباشر، كما جاء في تعريف الأمم المتحدة، والذي اختزل “الجينوسايد” بقتل أعضاء من الجماعة، وإلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بهذه الجماعة، وإخضاع الجماعة عمداً لظروفٍ معيشيةٍ يُراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، وفرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، وأخيرا نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى، بل عبر أنواع أخرى من العنف لم تتحدّد في التعريف بشكل واضح.

في المقابل، كانت الترجمة العربية لمصطلح “الجينوسايد” أكثر شموليةً من خلال وصفها بالإبادة الجماعية، فاستمرار الجماعة لا يعني، بالضرورة، عدم تعرّضها إلى القتل و إيقاف الإنجاب القسري أو الأذى الجسدي، فالجماعة أشبه بالفرد تتكوّن من جسد وروح، والمقصود بالروح هنا هوية الجماعة، فعلى سبيل المثال، منع مجموعة ما من التحدث بلغتها ومنع تدريس هذه اللغة يمكن أن يقضي على مستقبل هويتها ويمحو وجودها كليا أو جزئيا، وهذا ما لمستُه في زيارتي مناطق شعب المايا في المكسيك، حيث منع هذا الشعب خلال فترة الاستعمار الاسباني من تعلم لغة أجدادهم مع تدمير ممنهج لكل الكتابات والمخطوطات الأمر الذي أوجد فجوة كبيرة قضت على جزء مهم من هوية هذا الشعب الذي لا يملك اليوم القدرة على قراءة ما كتبه أجدادهم، ليندمجوا بشكل شبه كلي في جسد هويةٍ اختارها الاستعمار بشكل إجباري.

عليه، لا تقتصر مساحة الجرائم التي تندرج ضمن الإبادة الجماعية على العنف المباشر، بل تتجاوزه إلى العنفين، الهيكلي حين تٌعامل الجماعة بشكل عنصري من دون حقوق كاملة، وكذلك العنف الرمزي أو الثقافي الذي يبرّر العنفين المباشر والهيكلي، من خلال إيجاد صور نمطية تجعل من ممارسة العنف أمرا طبيعيا، لا العكس.

ووفقا لذلك، كان تعريف “الجينوسايد” الأممي، المقرّ قبل أكثر من 75، والذي جاء تحت شعار “لن يحدُث مطلقا مرّة أخرى” كان محاطا بغموض كبير، ولم يضع قواعد واضحة للتمييز بين فظائع العنف الجماعي، وخصوصا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، ما تسبّب بفقدان القدرة على منع الإبادة، كما كان مقترحا من الأساس في مؤتمر العام 1948، وما جرى لمواطني رواندا والبوسنة والهرسك والأيزيديين في العراق خير مثال، فالعالم بقي متفرّجا رغم توافر الأطر القانونية التي تتيح للقوى العالمية، وخصوصا الغربية، التدخّل عبر بوّابة الأمم المتحدة لإيقافها.

التركيز على العنف المباشر فقط يجعل من التمييز بين “الجينوسايد” وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية صعبا، إذ يمكن أن تبرّر بعض هذه الجرائم على أنها صراع داخلي، تُمنع الدول بموجب قوانين حماية السيادة من التدخّل لإيقافه. وقد دفع هذا الأمر بالتحديد أكاديميين عديدين خلال العقود القليلة الماضية باتجاه إيجاد آلياتٍ لفهم المؤشّرات التي تدلّل على إمكانية وقوع “الجينوسايد”، وبالتالي، محاولة إيقافها قبل أن يقتل الضحايا، وبعيدا عن أي اشتباك مع الجرائم الأخرى، فكان التركيز على جزئية النية أو القصدية الواردة في التعريف الأممي لـ”الجينوسايد”. وواحدة من أهم المؤشّرات التي اتفق عليها الأكاديميون والمختصّون في كشف “الجينوسايد” ومنعه هو خطاب نزع الإنسانية (Dehumanization) الذي يطلقه مرتكبو الجريمة قبل وقوعها وفي أثنائه، والمقصود بهذا الخطاب التصريحات العامة عبر وسائل الإعلام العامة للحطّ من القيمة الإنسانية التي تحملها الجماعة الضحية عبر إطلاق تسمياتٍ تُنتج صورا نمطية تعزّز العنف الثقافي والرمزي، ما يتيح استخدام العنف من دون الشعور بتأنيب الضمير الذي يرافق القتل بغرض منع استمرار الجماعة بشكل كلي أو جزئي. وتكرّرت بالفعل هذه الخطابات مع جميع الإبادات الجماعية المسجلة في كتب التاريخ، فكثيرا ما يستخدم المجرمون عبارات الصراصير والجرذان والحشرات والخنازير وغيرها قبل وقوع الجريمة بفترةٍ ليست بعيدة.

وفي قضية الإبادة الجماعية في غزّة المقامة الآن في محكمة العدل الدولية، يمكن إثبات، وبلا أي شك، أن أركان نظام إسرائيل السياسي قد انخرطوا في خطابات منظمّة كمحاولة لنزع الصفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، عبر استخدام عبارات “حيوانات بشرية”، وعبارات أخرى من قبيل “ضرورة استخدام سلاح نووي” وغيرها من عباراتٍ سبقت وترافقت مع هجمات عسكرية أودت بحياة أكثر من 1% من سكان القطّاع، وعبر عمليات عسكرية استخدمت فيها قنابل تزيد في قدراتها القنابل النووية، مع تهجير قسْري ومنع حقّ المدنيين في التنقل بشكل آمن، أو حتى الوصول إلى الماء والكهرباء بوصفهما عنصرين أساسييين للبقاء.

ومع استمرار هذا الخطاب اللاإنساني بحقّ شعب محاصر منذ سنوات طويلة، عبّرت إسرائيل رسميا عن خططها ونيّتها المسبقة لتدمير قطاع غزّة وسكانه بشكل كلي أو جزئي، لتتحقّق بذلك جميع الأركان الثلاثة المعتمدة في التعريف القانوني الدولي لـ”الجينوسايد”، الهوية والعنف والقصدية. وهذه الأركان هي المبادئ التي يمكن استخدامها لتقرير ما إذا كانت الجرائم أو أعمال العنف التي وقعت في مكان معين ضد مجموعة معينة للقضاء على هذه المجموعة تعتبر إبادة جماعية.

مقالات ذات صلة