جنون المحتلّ وخياره الشمشونيّ

جورج كعدي

حرير- وَصْفُ المُحتلّ الصهيونيّ بالجنون ليس لي، بل للأكاديميّ اليهوديّ والمناهض للصهيونية نورمان فنكلستين (وليس فنكلشتاين كما يلفظ بعضهم اسمه). ففي مقال حديث له، تحت عنوان “شمشون وكاساندرا”، يقول بالفم الملآن، وبوضوح تام: “إسرائيل دولة مجنونة”، نافياً أنّها مجرّد “دولة مارقة” أو غير ذلك، معتبراً أنّ قيادات الكيان أو نخبته السياسية ليست وحدها مجنونة بل تعكس جنون المجتمع الإسرائيليّ كلّه، الذي تدعم أغلبيّته الساحقة حرب الإبادة الجماعية في غزّة، ولم ترفض الخدمة العسكرية سوى حفنة من الإسرائيليين، بحسب تقديره، واصفاً استنكاف القلة بأنّه “مجرّد قفزة برغوث”. ويصف الواقع الإسرائيليّ الراهن على النحو الآتي: “في أحد القطبين، يقف الواقعيّون المعتوهون، وفي القطب الآخر المجانين المطلقون”، متسائلاً عمّا إذا كان نتنياهو، مثل شمشون، سيهدم الهيكل فوق قومه وأعدائه معاً. الواقعيّون المعتوهون يعتقدون ألا حلّ آخر سوى الحرب، وأنّ الفوز يعني شيئاً ما “رغم أنّهم لم يقولوا لنا أبداً ما هو هذا الشيء”، منتقداً زميله بيني موريس “المهذّب ورجل الفكر والعلماني والمجنون”، بحسب وصفه، الذي لم يأنفْ، حتى هُوَ، من الانضمام إلى مهاجمي إيران، داعياً واشنطن إلى الارتقاء إلى مستوى الحدث والمشاركة في ضرب إيران “أو تفعل إسرائيل ذلك وحدها وتقصفها بالأسلحة النووية” (!) أمّا المجانين المطلقون “مكتملو النموّ”، وفق تعبير فنكلستين، فلا تفصلهم إلّا خطوة واحدة عن عتبة هذا الفعل، معتبراً أنّه “الخطر الأعظم الذي يواجه إسرائيل اليوم”، ملاحظاً، مثل نعوم تشومسكي قبل أربعة عقود، أنّها “النسخة الجماعية” من انتقام شمشون؛ نتنياهو حالياً، على طريقة “دعوني أهلك مع الفلسطينيين”، مثلما فعل شمشون القديم، مدمراً الهيكل فوق رأسه ورؤوس الأعداء.

نتنياهو ومجلسه الإباديّ، والأغلبية الشعبية المؤيدة لهذا النهج التدميريّ، هم في حال من الجنون الجماعيّ الفعليّ الذي يفكّر “سنقتل الأمم حولنا وندفنها وسنموت نحن أيضاً معها” أو يتظاهرون، على الأقلّ، بالجنون لإخافة الأعداء والحلفاء على حد سواء، وهذا تماماً ما يعتمده الصهاينة اليوم مع أميركا والغرب كأنهم يقولون لهم: نحن جُننّا وسيزداد جنوننا لو ضغطتم علينا أكثر وأرغمتمونا على وقف إبادتنا، فحذارِ من جنوننا الشمشوني حلّاً أخيراً. بيد أنّ “الجنون المصطنع” سرعان ما يتحوّل جنوناً حقيقياً، حين تتسرّب الأشباح المتخيّلة المستحضرة دوماً إلى غرف النفس الداخلية. والنتيجة أنّ هذا الجنون، سواء الحقيقي أو المفتعل، يجعل الحسابات العقلانية موضع شكّ، حين تعتمد “إسرائيل” طريقة “الدول المجنونة”، حتى إنّ وزيراً يمينياً متطرّفاً في الحكومة نصح بـ “أن تصاب إسرائيل بالجنون”.

عبّر عن هذا الجنون الإسرائيليّ القائم ممثل “إسرائيل”، جلعاد أردان، في الجلسة الطارئة لمجلس الأمن في 14 إبريل/ نيسان الحالي، مُظهراً مدى الجنون الذي وصلت إليه دولته، حين قارن بين النظام الإسلامي في إيران والرايخ الثالث لأدولف هتلر، قائلاً: “مثل النظام النازي تماماً، يزرع نظام آية الله الدمار في كل مكان (…) لقد شهد العالم لسنوات صعود هذا الرايخ الإسلامي الشيعي، ولكن مثلما حدث خلال صعود النازية، ظلّ العالم صامتاً”، مردفاً: “إنّ طموحات إيران في الهيمنة على العالم يجب أن تتوقف قبل أن تدفع العالم إلى نقطة لا عودة عن حرب إقليمية قد ترتقي إلى حرب عالمية (…) إذا لم يكبح العالم جماح إيران لن يكون أمام إسرائيل ملاذ سوى تحمّل هذا العبء الساحق منفردة”. ويسترسل أردان هذا، في ديماغوجيته الصهيونية المعهودة، قائلاً إنّ “إسرائيل” اعترضت المُسيَّرات الإيرانية فوق المسجد الأقصى لحمايته. يا إلهي إلى أيّ حدّ يمكن أن يصل النفاق! هذا النوع من “الجنون الموثّق”، سبق أن اعتمده نتنياهو نفسه، يوم رفع في الأمم المتحدة رسماً يشبه الرسوم المتحركة عن القنبلة النووية الإيرانية أو يوم زَعَمَ، في الأمس غير البعيد، أنّ مفتي القدس محمد أمين الحسيني هو من “اقترح” على هتلر “الحلّ النهائيّ” بإبادة اليهود. مرّة أخرى يا لهول النفاق!

ذرائع السابع من أكتوبر (2023)، والردّ الإيراني في الأمس، فرصة لمجانين الكيان الصهيوني لأن يُنهوا التحدّي الثلاثي الذي يمنع هيمنتهم الإقليمية: تدمير غزّة، وحزب الله، وإيران. ويمكنهم لاحقاً تنفيذ التطهير العرقي والترحيل في الضفّة الغربية. أمّا العاقلون المعتوهون أو المجانين فغير قادرين هم أيضاً على وقف هذا الانزلاق الصهيوني نحو الهاوية. فحتى مع تصاعد الكوارث العسكرية في جيش الكيان لا يني الجميع مصفّقاً لنتنياهو، وعصابة مجانينه. مثل هذا حدث قبل هزيمة هتلر ومشروعه النازي بأسابيع وأيام معدودة. في النُظم الفاشية يبقى الزعيم زعيماً حتى هزيمته أو موته. النظم الفاشيّة محكومة بالنصر أو بالهزيمة، وبنزعَتَي الجنون والانتحار.

فقدت “إسرائيل” أهمّ أسلحتها وأمضاها منذ تأسيسها كياناً محتلّاً إحلاليّاً عنصريّاً مجرماً؛ سلاح التخويف والترهيب على صعيدي المنطقة والعالم. سقطت الهالة؛ الهيبة؛ الرهبة… تهاوت إلى مصاف الدول العاديّة القابلة لأن تُهزم في الحروب، ولأن تَخْتَبر هي نفسها الرعب والخوف وتهديد المصير، لذا لم يبقَ لها في جولتها الوجودية الأخيرة سوى ادّعاء الجنون أو الإصابة الفعليّة به.

مقالات ذات صلة