أم الغيلان

يوسف غيشان

حرير- عمل المستكشف “بيركهارت” جاسوسا لدى المخابرات البريطانية في بدايات القرن التاسع عشر، وقام برحلات في بلاد الشام ومصر وجزيرة العرب وسجّل انطباعاته، وينسب إليه اكتشاف مدينة البتراء، وهذه مبالغة، لأنّ البتراء كانت مكتشفة لدى البدو، وهم من أوصله إليها، لكنّ (فضله) يقتصر على تعريف العالم على كنوزنا وفتح عين الاستعمار على المنطقة أكثر وأكثر.

ما علينا، يحكي بيركهارت خلال مرافقته للقوافل التجارية العربية، بأنّ العرب يتحدثون عن (أمّ مغيلان)، وأنا أعتقد أنهم كانوا يتحدثون عن (أمّ الغيلان) لكنّ لسانه الأعجميّ لم يدركها تماماً، وهي غولة -حسب العرب -تأكل المسافرين الذين يتخلفون في المسير عن القافلة.

ومن الواضح طبعاً أنّ لا غولة موجودة ولا ما يحزنون، لكنّ هذا الحديث الأسطوري عن أمّ الغيلان، يلهب المشاة حماسة وهم في الصحراء ليتقدموا مع القافلة وإلاّ افترستهم أمّ الغيلان، ويجعلهم هذا المخيال المرعب يتغلّبون على التعب والجوع، وهم يتخيّلون عظامهم تطقطق بين أسنان أمّ الغيلان شخصيّاً.

في مدينتي يتحدثون عن فارس على ظهر جواده، كان عائداً في الليل، فظهر أمامه فجأة ماردٌ أسود عملاق، فاستمر الفارس في الركض، لكن العملاق الأسود كان يستمر في الظهور أمامه، وكان الفارس يحاول التملّص منه، إلاّ أنّ المارد كان يزاحمه على الأمام، لكنّ الفارس استمرّ في محاولة الهروب حتّى هدّه التعب ليقف مستسلماً، فيتكشف أنّ الفارس العملاق هذا لم يكن سوى إحدى الشراشيب السوداء المدلاة من (عقال) الفارس فوق راسه، وقد تدلّت بين عينيه خلال المسير.

إنّه الخوف من الليل، إنّه عصر ما قبل الكهرباء،عصر الأساطير المتخيّلة .

نعود إلى المرحومة أمّ الغيلان: أعتقد أنّ الجانب الآخر من الأسطورة كان الأهمّ، وهو أنّنا نتقاعس عن مساعدة الضعفاء منا غير القادرين على مسايرة القافلة، ونبرئ أنفسنا، ونمنح حالنا صكوك غفران من دماء إخوتنا، تحت شعار أنّ أم الغيلان ستفترسهم، وننسى أنّنا نترك إخوتنا (فرائس) في الطريق، لأنّ نزعتنا الفردية تتغلّب على نزعتنا الجماعيّة، ولا نرغب بالاشتباك مع الواقع ولا نحمّل أنفسنا المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية.

بعد مئتيّ عام على رحلات بيركهارت ما زلنا فرديّين تماماً كأجدادنا، ولم تعلّمنا عصور الظلام ولا الاستعمار القديم ولا الحديث أن نتكاتف معاً من أجل مواجهة الغيلان في كلّ مكان.

عشان هيك تتبدّد إنجازاتنا مثل حراثة البعارين، وما زالت شراشيب العقال تشكّل رعباً حقيقيّاً لنا، لأنّنا لم نستفد من تجربة الفارس، وما زلنا نكرر الأخطاء ونراكمها، مثل (أبو جعرّان). !!

وتلولحي يا دالية

مقالات ذات صلة