لن تسقط السماء.. ولن تضيع القدس… لما خاطر

 

“مر الخميس والجمعة والسبت والأحد ولا تزال السماء في مكانها ولم تسقط”
هذا ما قالته السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، في إشارة
ساخرة منها إلى ردود الفعل على قرار بلادها الاعتراف بالقدس عاصمةً لكيان الاحتلال، بمعنى أنها ترى أن تداعيات الحدث كانت باهتة وأدنى من المتوقع، وأن كل شيء سيمرّ ثم يغدو أمراً واقعاً إذا أملَتْهُ إرادة الأقوياء ومنطق الغطرسة.
والواضح هنا أن استهزاءها هذا موجّه بالدرجة الأولى لزعماء المنطقة، وتحديداً العرب، الذين عبّروا خلال تواصلهم مع الرئيس الأمريكي ترمب قبل اتخاذه الخطوة عن خشيتهم من تداعياتها على حالة الاستقرار في المنطقة، وتحذيرهم بأنها قد تفجّر أفعالاً (متطرفة) وستغذّي العنف وتنعش آمال (الإرهابيين).
بطبيعة الحال، فإن هؤلاء الذين حصروا جزعهم من الخطوة في ذلك العامل، أي ردود الفعل العنيفة عليها يستحقون الاستهزاء، ذلك أنهم جميعاً اشتركوا في تأكيد رسالة واحدة للإدارة الأمريكية مفادها أنه ليس مهماً ما سيجري لواقع القدس ولا ما سيفرزه القرار من إطلاق ليد الاحتلال نحو مزيد من الاستيطان والتهويد والتهجير، بل إن أيديهم كانت على قلوبهم خشية من ردود الفعل العنيفة فقط والتي قد تغيّر ملامح المرحلة في فلسطين والإقليم. فكان طبيعياً أن تعود السفيرة الأمريكية للسخرية منهم قائلة: ها قد مرّ الأمر دون أن يحدث ما خشيتم منه، فلا بد من استئناف التعاون بيننا واستكمال العمل في ملفّات التخريب المشتركة في المنطقة!

في المقابل، فإن الأحرار الذين رفضوا الخطوة واستعدّوا لمجابهتها لم يكونوا يتوقعون سقوط السماء بعد إنفاذها، ولا حلول واقع متفجّر في اليوم التالي لها، ولا إيقاع هزيمة فورية بالاحتلال الصهيوني أو حمْل ترمب على التراجع عن قراره، ذلك أنهم واعون جيداً بخصائص هذه المرحلة، وبمدى الضعف المكتنف أطراف الأحرار فيها والساعين للتغيير، لكنهم يدركون أيضاً أن (أثر الفراشة) يمكن أن يحدث طوفاناً بعد أمد معيّن.

إنما يكفي حالياً ضمان بقاء التفاعل مع الحدث وتنامي الرفض والانتفاض، ولو بشكل بطيء، رغم أن تفاعل الأمة كلّها كان مذهلاً بالنظر إلى غرق معظم ساحاتها في معارك غير ناجزة ضد الاستبداد، وتقييد أخرى بسقوف واطئة تضبط تفاعل الغضب وتحاصر امتداداته المتوقعة، وقد رأينا في ساحات الأردن ومصر ولبنان وسوريا وتركيا وبلاد المغرب وغيرها من حواضرنا ما بعث على الاطمئنان بأن قيمة القدس في فؤاد هذه الأمة ما تزال عالية وغالية، وأن المسافة بين وعيها وهمّتها ليست طويلة كما يظنّ اليائسون.
وحتى لو سكن التفاعل مع الحدث، فما من شك بأنه سيكون سكوناً مؤقتاً سواء على صعيد الشارع الفلسطيني، أو العربي والإسلامي، لكن حقيقةً كبرى قد بدأت بالتشكّل وهي أن معركة القدس قد بدأت، وما من أحد قادر على التنبؤ بمستوى تطورها في المستقبل، وقبل ذلك أن روح هذه الأمة لا تموت، وأن فطرتها لن تنتكس، ولن يخفق فؤادها لغير مقدساتها وثوابتها وقضاياها الكبرى، وعلى رأسها التحرر من الاحتلال ومن الاستبداد، وفي خضم كل ذلك ستظل قضية فلسطين -والقدس في قلبها- مستويةً على ربوة عالية، تشدّ إليها الأنظار، وتنشئ حالة الإجماع والتوحّد، فتعلو الحقائق الربانية إلى السماء، وتهبط الرذائل الأرضية إلى مستنقعاتها الطبيعية، ويهزم صوتُ الحق نعيقَ غربان التطبيع والخنوع والإفساد.
لن تضيع القدس، حتى لو نُقلت كل سفارات العالم إليها، وحتى لو أذعنت كل الأنظمة العربية، وانساقت إلى حظيرة عدوّها باغيةً رضاه عنها، ولن يكون منتظراً أن تسقط السماء، حتى لو أمعن المحتل وحليفه الأمريكي في عدوانهم إلى حدود غير متخيلة، لأن للسماء نواميسها التي لا تستثني أحداً ولا تتغافل عن ظالم أو مستكبر، وإن كانت الغطرسة تسوّل للعتاة والجبابرة بأن يمتهنوا السخرية من ضعف أعدائهم، فإن اليقين يمنح المراهنين على وعد الله اطمئناناً راسخاً حول مآل جولتهم الأخيرة في صراعهم مع عدوّهم، وهذا اليقين سيظلّ منتجاً للمفاجآت وصانعاً للتحوّلات الكبرى، التي تتفاعل على مهل، وتنضج جمارها على لهب خفيض، حتى حين.

مقالات ذات صلة