الفضاء السيبراني والاختراق الذكي للحدود

خالد وليد محمود

حرير- سعت دول عديدة وتسعى إلى رسم حدودها السيبرانية من أجل حماية ما تستطيع حمايته لأمن مؤسساتها، بمختلف أنواعها وتخصصاتها التي تتعرّض لتهديدات وهجمات وجرائم إلكترونية متزايدة، في ظل تدفق المعلومات الرقمية و”سيولتها”، وازدياد ذكاء التهديدات السيبرانية والمخاوف من الجانب “المظلم” للإنترنت الذي يلقي بظلاله على العلاقات الدولية، لحجب الفوائد الهائلة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وبما يزعزع الاستقرار في النظام العالمي.

وبالرغم من أن الحدود السيبرانية تفتقر إلى الحدود الجغرافية الثابتة فإنّها تتكوّن من مزيج جزأين (مادية ملموسة وأخرى غير ملموسة)، وبالتالي رسم الحدود السيبرانية من خلال مكوناتها، وهي البنية التحتية لشبكة الإنترنت (المعدّات والمنافذ التي تقع على أرض جغرافية) وأسماء النطاقات الحصرية وموقع الحوسبة السحابية والطاقة التي تمدّ شبكة الإنترنت والاتصالات وحركة مرور البيانات. ومن خلال هذه المكونات، يمكن إنشاء بوابات لمراقبة المنافذ المعلوماتية التي تتدفق عبر الكابلات البحرية والبرية. ورغم أنّ هذه الإجراءات ستنتج تحدّيات لخصوصية المستخدمين وحرية التعبير، وأخرى تتعلق بالدولة نفسها التي ترغب بتوطين فضائها السيبراني والتحكّم في شبكة الإنترنت، فإن التطورات في العملية التي تسمح باستخدام الفضاء السيبراني وبعبور شبكة الاتصالات الوطنية تجعل من الصعب عملياً ضبط الحدود السيبرانية وإخضاعها للتشريعات والمراقبة المحلية واستحالة تحديد (وإنتاج) برامج معلوماتية تسيّر الفضاء السيبراني، وتنتقل من دولة إلى أخرى بشكل سريع عبر الكابلات البحرية والبرّية التي تربط الفضاء السيبراني بين الدول، وهي مملوكة بشكل أساسي لعدة شركات مع تنافس لعدد قليل من الدول، مثل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي ودول البريكس بوصفها جهات فاعلة بدرجاتٍ متفاوتة في هذا السوق.

الفجوة في المرافق السيبرانية الرئيسية المتصلة بالبيانات بين البلدان متقدّمة النمو والبلدان النامية واضحة في الهيمنة على نظام الكابلات البحرية، وهي “البنية التحتية الرئيسية التي تدعم الفضاء السيبراني العالمي”، فأهمية هذه الكابلات تجعلها في صميم التوترات والتنافس الدولي ضمن مشهد “الصّراع الرقمي” بين الفواعل التي تمتلك البنية التحتية للفضاء السيبراني، وتشرف وتسيطر عليها، والأخرى الساعية إلى بسط السيادة على بيئتها الرقمية ومراقبة التدفقات المعلوماتية عبر حدودها السيبرانية.

في ظل تنامي دور الفضاء السيبراني، تحاول دول عديدة أن توجد لنفسها مساحة آمنة فيه، كي تحافظ على أمنها القومي من ناحية، ولدعم نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري عالمياً، وكذلك سياساتها الخارجية من ناحية أخرى. وبهذا فإنّ إحدى الحجج الرئيسية لإنشاء الحدود الرقمية في الفضاء السيبراني هي نفسها المستخدمة منذ معاهدة ويستفاليا عام 1648، وهو الحفاظ على الأمن بمفهومه الشامل، إذ يفترض أنّ مسؤولية الدولة الرئيسية تكمن في هذا المجال، بحماية البيانات الشخصية لمواطنيها أولاً، والحفاظ على أمنها القومي من التهديدات الخارجية. ويحتم هذا المشهد على الدول اتباع الاعتماد المتبادل بينها وبين القطاع الخاص فيها، وشركات الإنترنت العملاقة المهيمنة على الفضاء السيبراني العالمي، لأنّ الأخير يتطلب قدراً كبيراً من الاختصاص والمهارة والخبرة ومعرفة عميقة بالمعلوماتية وثورة الاتصالات.

ما يُستنتج مما تقدّم أنّ الفضاء السيبراني غيّر من أنماط العلاقات الدولية. ونتيجة لذلك لم تعد للحدود أهمية كبيرة، بعد أن أضعفت السيبرانية عامل الجغرافيا. وتشير نظرة متفحصة اليوم إلى التأثير المتعاظم لهذا العالم على الواقع، بوضوح، إلى عمق السيطرة المتحقّقة للفضاء السيبراني، وما تحمله أدواته من تطبيقات مبهرة ومتنوعة على حياة البشرية بشكل يومي. إذا نظرنا إلى العالم السيبراني بلغة الأرقام، نجد أكثر من 4.9 مليارات مستخدم فعّال للشبكة العنكبوتية، وحوالي 4.3 مليارات يدخلون إلى 198 مليون موقع فعّال للإنترنت عن طريق هواتفهم الذكية، وما يزيد على سبعة ملايين مقال تُنشر يومياً، وأكثر من 500 ساعة من الفيديوهات يجري تحميلها على “يوتيوب” كلّ دقيقة، حتى بات المستخدم يقضي ما يزيد على ست ساعات يومياً على الإنترنت.

الفضاء السيبراني ذو أهمية عظيمة لسير الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجيوسياسية والجيواقتصادية للبشرية جمعاء، كما أنّ أهميته تجعله في صميم التنافس الدولي، حول من يسيطر ومن يملك ومن يبسط النفوذ، فالدولة الوطنية كانت، قبل استخدام الفضاء السيبراني، قادرة على تحديد تدفق المعلومات وتغلغلها بشكل نسبي مقبول، غير أنها أصبحت اليوم، وبعد انتشار الفضاء السيبراني وتطوره عاجزة عن التحكّم كلياً بسيل المعلومات والبيانات التي تتدفق. وظهر ذلك في محدوديتها على منع سرقة المعلومات الإلكترونية، ومنع القراصنة المحتملين من القيام بأعمالهم وصد الهجمات السيبرانية أو التنبؤ بها أو قدرتها على منع التنصّت وانتهاك سرية المراسلات والاتصالات، أو اعتراض برامج خبيثة من المعلومات. وهذا، بمعنى من المعاني، خرق مبدأ السيادة، ففي هذا الفضاء لا وجود للحدود الوطنية بينها، فهناك حدود افتراضية لا مرئية يرسمها الطيف السيبراني على أسسٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ وإعلامية، لتقيم عالماً من دون دولة ومن دون أمة ومن دون جغرافيا.

مقالات ذات صلة