
لبنان وإسرائيل… الواضحات والغامضات
توفيق شومان
حرير- ينتظر اللبنانيون أجوبةً عن أسئلة المفاوضات مع إسرائيل، وقد دخلوها برؤية واضحة، فيما يطغى الغموض على مقاصد التفاوض الإسرائيلية. وبين ما تأمل فيه بيروت وما تضمره تل أبيب، تكمن الفجوة السحيقة بين رؤيتَيْن متناقضتَيْن. يذهب الفريق اللبناني إلى مقاعد المفاوضات متأبّطاً أربعة عناوين لا لبس فيها ولا تأويل؛ وقف الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، وانسحاب جيش الاحتلال من الأراضي اللبنانية، وعودة المهجّرين إلى مناطقهم، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين. وتحت هذه العناوين تُحلّ إشكالية تثبيت الحدود مع فلسطين المحتلّة، وعدم عرقلة إعادة الإعمار.
ويشكّل قرار مجلس الأمن 1701 قاعدةً للعناوين اللبنانية وفروعها. وفي مقابل العناوين آنفة الذكر، يطلّ السؤال الإسرائيلي: ما الثمن الذي على لبنان دفعه لقاء التجاوب مع عناوينه؟ وفي حقيقة الأمر، يشكّل السؤال قاعدة التفاوض الإسرائيلية التي تتناقض بالمطلق مع ما يريده لبنان وما يبتغيه. وأولى علامات التناقض أن إسرائيل أسقطت من حساباتها المتعلّقات كلّها بالقرار 1701، ومن تفاصيل الإسقاط خروج القوات الدولية من لبنان في أواخر العام المُقبل. وبهذا المعنى، بات القرار المشار إليه أثراً بعد عين، وقوات الأمم المتحدة (يونيفيل)، التي كانت شاهداً عليه، غدت شاهداً سابقاً على قرارٍ سابق.
وضمن هذا التشخيص، تبحث إسرائيل عن قرار آخر، فيستنجد اللبنانيون باتفاقية الهدنة الموقّعة في مارس/ آذار 1949. لكن تل أبيب كانت أبلغت بيروت في الجلسة الأولى من المفاوضات اللبنانية– الإسرائيلية (28/12/1982) التي أدّت إلى اتفاق 17 أيار (1983)، أنها تعتبر اتفاقية الهدنة ملغاةً؛ لأن لبنان اتّخذ موقفاً عدائياً من إسرائيل في أثناء حرب حزيران (1967)، وأتاح المجال للعمل الفدائي الفلسطيني أن ينطلق من أراضيه وفق اتفاقية القاهرة (1969) بين السلطات اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، على ما قال رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض ديفيد كيمحي لنظيره اللبناني أنطوان فتال، استناداً إلى ما أوردته صحيفتا السفير والأنوار، وكذلك صحيفة الرأي العام الكويتية (في 29/12/1982).
وبما أن إسرائيل لم تلتزم بقرار وقف إطلاق النار الصادر في 27/11/2024، وأزالت من جدول تفكيرها القرار 1701، وأبطلت اتفاقية الهدنة العائدة إلى 1949، فالاستنتاج الذي يفترضه منطق الاستقراء السياسي أن تل أبيب لا تفاوض طبقاً لأيّ قرار دولي، وأنها تبحث عن اتفاق جديد مع لبنان لا يتصل من قريب أو بعيد باتفاقيات سابقة. ومن الملامح التي تعمل على تحويلها إلى معطيات: تفتيش المنازل بحثاً عن السلاح. وبما أن الثقة الإسرائيلية في الجيش اللبناني مفقودة، فتل أبيب تسعى إلى تكريس شاهد عيان دولي وموثوق ينجز إفادات البحث والتحرّي عن السلاح المظنون به في المدن والقرى اللبنانية. وهذه الطريقة التي تكاد منذ فترة تتحوّل تقليداً يومياً أضحت متداولةً في الوسط الإعلامي اللبناني بمسمّى “آلية التحقّق”. والخطورة فيها لا تقتصر على انعدام الثقة الإسرائيلية بالمؤسّسة العسكرية اللبنانية، بل بالحديث الإسرائيلي المتصاعد عن ولاءات غير وطنية لضباط وجنود لبنانيين ينتمون إلى بيئة اجتماعية معيّنة، وكأنّ إسرائيل بذلك تمهّد للتدخّل في تشكيلات الجيش اللبناني ومنهجية عمله، وحتى بالتشكيك في عملية انتشاره في جنوبي لبنان.
ومكمن الخطر الآخر الانكباب الإسرائيلي على طروحات “المنطقة الاقتصادية”. وفي وقت يتجنّب فيه الفريق الوزاري العامل مع بنيامين نتنياهو الخوض في تفاصيل تلك المنطقة، فالهواجس اللبنانية الغزيرة بالأسئلة تفيض باستفهامات لا تحيد عن الربط بين المنطقة العازلة والمنطقة الاقتصادية والمنطقة الخالية من البشر. وهل يمضي الأميركيون بمجاراة الإسرائيليين بتلك الفكرة السوداء التي تضع لبنان بين خيارَيْن: إمّا استمرار الحرب عليه، وإمّا النزول عند رغبة تل أبيب؟
وفيما لا تخفي إسرائيل طموحها بالتطبيع الكامل مع لبنان، فالأخير لا ينفكّ يؤكّد التزامه بمقرّرات مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، والقائمة على المعادلة المعروفة “الأرض مقابل السلام”. ولكن هذه المعادلة بالنسبة إلى الإسرائيليين لا وجود لها، وعلى لبنان أن يتحلّل من النصوص العربية ولا يقيم معها حرفاً ولا نقطة. ومرّة أخرى، تظهر في هاتَيْن الرؤيتَيْن عوامل التناقض بين لبنان وإسرائيل، ممّا يجعل العملية التفاوضية بينهما أشبه بالجدران الصماء؛ فلبنان ليس بوسعه التجرّد من أبعاده العربية، وإسرائيل تريده أجردَ وأوحد.
ومن ناحية أخرى، يظنّ المفاوض اللبناني أن تطعيم فريقه التفاوضي بالسفير سيمون كرم بوصفه شخصيةً مدنيةً ودبلوماسيةً، وربّما بشخصيات أخرى لاحقاً، قد يفتح أبواب الفرج أمام المفاوضات. وهذا الظنّ الآتي من عوالم الرهان على حبال الهواء قد لا يكون منبوذاً، حتى لو لم يكن محبّذاً، لكنّه يصطدم برؤية إسرائيلية أمنية متكاملة تجمع بين مصائر تسويات ثلاث في قطاع غزّة وسورية ولبنان؛ وأيُّ عثرةٍ في واحدة ستصيب الأخريات. في حين تبقى التسوية بين دمشق وتل أبيب مرآةً أساسيةً لما يمكن أن تستنسخه إسرائيل مع لبنان؛ فحين تكون الجغرافيا متّصلةً، يصبح الأمن موصولاً… هكذا يفكّر الإسرائيليون.
بانتظار التقرير الجديد من الجيش اللبناني في الأسبوع الأول من العام المُقبل، وما سيتضمّنه من حقائق ومسلّمات حول انتشاره في منطقة جنوبي نهر الليطاني، وإعلانه (كما هو شائع في بيروت) إنجاز خطّته العسكرية باستثناء الهضاب والتلال المحتلّة، يأمل اللبنانيون في خطوة مقابلة. هم يأملون، وعلى ما يبدو أن معالم تلك الخطوة غير قابلة للظهور العاجل؛ فالأميركيون يقولون إنّ المفاوضات بين لبنان وإسرائيل شيء، واستمرار الحرب الإسرائيلية على لبنان شيء آخر! متى تنتهي الحرب؟ متى تصيب المفاوضات نجاحاً؟… لا إجابات في بيروت.



