فنزويلا ونيجيريا: طلائع حروب دونالد ترامب

وسام سعادة

حرير- بالتوازي مع تشديد الحصار على فنزويلا وكثرة الحديث عن احتمال تدخل عسكري أمريكي ضد نظام رئيسها نيكولاس مادورو، فقد آثرت إدارة الرئيس دونالد ترامب اختيار ليلة عيد الميلاد لشن هجمات على أهداف لتنظيم «الدولة « في نيجيريا.

يختلف منحى مؤشر التصعيد في الحالتين، لكن ارتفاع حدة التدخل الأمريكي في أحوال كل من نيجيريا وفنزويلا يحمل معه بعضاً من سمات العام المقبل. الهجمات في نيجيريا والتهديدات ضد فنزويلا تظهر أن الإدارة ترغب في توسيع دائرة تدخلها خارج الشرق الأوسط وبعيداً عن «الحدائق الخلفية» لكل من روسيا والصين، نحو مناطق استراتيجية بعيدة عن النزاع المباشر مع القوى الكبرى مع التركيز على مناطق غنية بمصادر الطاقة.

وفيما تقوم «خطة» نظام الرئيس مادورو في فنزويلا على التحوط للتدخل الأمريكي والتعامل التعبوي والأمني معه على مدار الساعة كما لو أنه وشيك، تشدد نيجيريا على أن الهجمات الأمريكية تمّت بطلب منها والتنسيق معها، فيما تتحفظ على حصر ترامب إجرام تنظيم الدولة بالمسيحيين وحدهم.

وترامب سبق له مؤخراً أن صعّد لهجته ضد حكومة أبوجا، مهدداً بتعليق المساعدات الصحية والتنموية والأمنية لها، بل راح يتهمها بالتقاعس عن حماية المسيحيين في وجه الجماعات المتطرفة. هذا في بلد نصف سكانه من المسلمين وأقل من النصف بقليل من المسيحيين، ويصعب القول بصدده أن أتباع دين يستأثرون بالحكم ويعزلون القسم الآخر. لكن نيجيريا ما كانت قادرة على استئصال بوكو حرام ولا هي فالحة اليوم في إعاقة تمدد تنظيم «الدولة».وبدل أن تكون الأسلمة «الشريعتية» الجزئية لولايات الشمال قادرة على لجم حركات الأسلمة المتطرفة، حصل العكس. والجيش النيجيري تُعرقل التعددية الاثنية والدينية والمناطقية فعاليته في «مكافحة الارهاب» كما أن الغلبة فيه للمسلمين الشماليين، بخلاف الطابع الأكثر تعددية ضمن المؤسسات الدستورية، والطابع الأكثر مسيحية لمراكز تكثف الحياة الاقتصادية. أما الخطاب الرسمي لنيجيريا فيركز على أن خطر «داعش» يتساوى فيه المسلم والمسيحي، وهذا ما يعتبره المسيحيون تقليلاً من أثر التركيز الدموي عليهم.

تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم. أما نيجيريا فتحتل على هذا الصعيد المرتبة العاشرة.الحجم الأكبر للاحتياطي لا يعني بالضرورة الأفضلية التجارية: النفط النيجيري مرغوب أكثر في الأسواق العالمية، فخامه الخفيف نسبياً أسهل للتكرير، في حين يتطلب النفط الفنزويلي الثقيل تقنيات أكثر كلفة لاستخراجه.

في السنوات الأخيرة، وبما لا يعزل عن أزماتها الداخلية، وفي ظل العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة ـ وبدرجة أقل حدة من طرف كندا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي ـ تراجع إنتاج فنزويلا النفطي، في حين مال الإنتاج النفطي النيجيري الى الارتفاع، رغم أن الدولة الأكثر سكاناً في أفريقيا تحرص على تخفيف الاعتماد على الخامات الطبيعية وحدها وتطوير الصناعة التحويلية وصناعات التجميع، وتتطلع من البوابة الرقمية أيضا، لتطوير ما يمكن وصفه، مع شيء من التجاوز، تجربتها في إطار الثورة الصناعية الأفريقية. وهذه لا تزال في بداياتها.

كون أكثر سكان نيجيريا يعيشون في المدن يفتح المجال بشكل أوسع، رغم كل المعوقات ـ ضعف البنى التحتية، عدم انتظام امدادات الكهرباء والوقود، الفساد، التحديات الأمنية وبخاصة تلك المتصلة بالجماعات الاسلامية العنيفة كبوكو حرام وتنظيم الدولة ـ ، لتطوير الحصة النيجيرية ضمن هذه الثورة الصناعية الأفريقية «العتيدة». في المقابل، تغيب أرضية أي تكامل بين المدن والأرياف في نيجيريا، وهذه الفجوة توصد الأبواب أمام التوغل أكثر في اتجاه الثورة الصناعية.

الشمال النيجيري، ريفي ورعوي بشكل أساسي، غالبيته السكانية من المسلمين. الجنوب النيجيري أكثر تمدنا، والأكثرية فيه مسيحية. ونيجيريا تكاد تكون أكثر بلدان العالم «تناصفا» بين المسلمين والمسيحيين، مع أرجحية الأوائل، وتعتمد فيها المناوبة الضمنية على هذا الصعيد بين منصبي الرئيس ونائبه، كما يعتمد فيها النظام الفدرالي. وبما أن الديموقراطية لا يفترض حصرها بمفهوم اطلاقي مثالي عنها، يجوز الحديث عن ديموقراطية نيجيرية، تقوم على ثنائية حزبية، بين تشكيلين أحدهما قاعدته مسيحية أساساً، وهو أقرب ـ رمزيا ـ الى اليسار، والثاني له عند المسلمين أكثر. الانقسام الاسلامي المسيحي يتقاطع أيضا مع اعتماد التشريعات العلمانية بشكل ناجز في الولايات المسيحية، في مقابل تدرج الولايات ذات الأكثرية الاسلامية على طريق تحكيم الشريعة الإسلامية.

مقارنة بفنزويلا، يبقى الاقتصاد النيجيري أقل ريعية وأكثر حيوية وتنوعا. النظام الدستوري أيضا، دولة القانون، أكثر تقدماً في نيجيريا. الانتخابات فيها تنافسية، التداول على السلطة جدي، المجتمع المدني نشيط، المحكمة العليا تتمتع فيها بمهابة، وهي ضابطة للتوازن بين الشمال والجنوب، وبين المسلمين والمسيحيين، خصوصاً عند الفصل في النزاعات التي قد تحمل أبعاداً دينية أو إقليمية، وكل ما تعلق بالتناقضات بين القوانين على الصعيد الفدرالي وبين التطبيق الجزئي للشريعة الاسلامية. السلطة القضائية ملحقة بتلك التنفيذية في فنزويلا. الانقسام بين اليسار الشعبوي الحاكم وبين اليمين المتطرف الذي له قدم في الليبرالية وقدم أخرى في الفاشية انقسام عميق، لكنه يبدو بعيدا كل البعد عن أي أفق للمأسسة. حالة انشقاق مجتمعية، ربما كان أساسها العرقي لا يقل عمقاً عن سمتها الطبقية. الخلاسيون من الميستيزو الفقراء والأفارقة-الفنزويليون هم غالباً في الطبقات الكادحة والفقيرة، بينما البيض في الطبقات الثرية والمقتدرة و«الوسطى العليا». كان هذا قبل أن يزيد الخناق الأمريكي على نظام الرئيس مادورو، ما يدفع المزيد من أبناء الطبقات الوسطية الى التذمر والتبرم، بمن في ذلك غير البيض. أضف للفارق من الأساس في الشخص ومن حيث التحدر بين تشافيز ومادورو. الأول أكثر خلاسية، وبخلفية ريفية. الثاني أقل خلاسية، ومديني. بالتالي، مادورو أقل قدرة على تجسيد التواصل الطبيعي مع الطبقات الشعبية، وأكثر اعتماداً على الأجهزة الأمنية والحزبية. هذا مع أن تشافيز كان ضابطاً، تورط في انقلاب عسكري بمضمون اجتماعي صنع شعبيته عام 1992. أما نيكولاس مادورو فآت من النقابات و«دهاليزها».

في البلدين يمكن أن تدفع السياسة الأمريكية اليوم الأمور الى تفجير صاعق تناقضات داخلية متراكمة. انقسام حاد في فنزويلا إنما غير ممأسس، له طبيعة انشقاقية، في مقابل تعددية حزبية ممأسسة الى حد كبير في نيجيريا، إنما غير قادرة على تحقيق مبدأ سيادة القانون في كل البلاد، وتجد نفسها منساقة الى التنازل أمام الضغط «التطبيقي» للشريعة في عدد من الولايات، وفي مواجهة التطبيقات العنيفة لتوجهات بوكو حرام وتنظيم الدولة هناك في مساحة من هذه الولايات الشمالية.

مقالات ذات صلة