
من “ماغا” إلى “ميغا”… انقسام على عتبة إسرائيل
أسامة أبو ارشيد
حرير- على مدى عقدين تقريباً، تحوّل مركز ثقل الدعم الأميركي التقليدي لإسرائيل من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري تدريجياً، حتى وصلنا اليوم إلى مرحلة تؤكّد فيها استطلاعات الرأي المتواترة وذات الصِدقية العالية أن غالبية القاعدة الديمقراطية أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين، وأكثر انتقاداً لإسرائيل، من دون أن ينفي ذلك بقاء المؤسّسة التقليدية للحزب داعمةً لإسرائيل مع تصدّعات متنامية في هذا الجدار. في المقابل، تشير استطلاعات الرأي ذاتها إلى تزايد الدعم لإسرائيل داخل القاعدة الجمهورية، مدفوعاً إلى حدٍّ كبير بقاعدة إنجيلية مسيحية “evangelicals” واسعة ومؤثّرة، تنطلق من قناعات دينية مسيانية (مسيحانية)، مناطها عودة المسيح عليه السلام الثانية مخلّصاً ومنقذاً، بعد وقوع حرب نهاية الزمان (هرمجدون)، التي من شروطها عودة اليهود إلى “أرض الميعاد” التوراتية (فلسطين) وهزيمة أعدائهم. طبعاً، هذه العقيدة المسيانية، أو الصهيونية المسيحية، لا تدعم إسرائيل واليهود محبّةً، بل وظيفياً، إذ إنها تؤمن بأن عودة المسيح تنتهي بالقضاء على ثلثي اليهود، في حين يتحوّل الثلث الباقي منهم إلى المسيحية في تصحيح للخطأ التاريخي الذي ارتكبوه (بحسب هذه السردية) عندما رفضوا المسيح في المرّة الأولى.
هنا، تتلاعب المسيحية الصهيونية والصهيونية اليهودية كلٌّ منهما بالأخرى في سبيل تحقيق أهدافهما الكبرى، مع تأجيل “حرب نهاية الزمان” إلى حينها. لكن، هذا الدعم الهائل لإسرائيل داخل صفوف الحزب الجمهوري بدأ يشهد تشقّقات وتحدّيات، مدفوعاً بالتحولات داخل حركة ماغا، أو لـ”نجعل أميركا عظيمةً مرّة أخرى”، وهي القاعدة الانتخابية التي حملت دونالد ترامب مرَّتَين رئيساً للولايات المتحدة.
في السنوات الماضية، كان دعم حركة ماغا لإسرائيل شبه شامل وشبه مطلق، لكنّه بدأ يشهد انقسامات كبيرة، على الأقلّ في الأشهر الماضية، على أرضية الخلاف حول أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وكذلك الكارثة الإنسانية المروّعة في قطاع غزّة جراء حرب الإبادة المتوحّشة التي تشنّها إسرائيل فيه. وكانت مشاركة إدارة ترامب لإسرائيل في عدوانها على إيران في شهر يونيو/ حزيران الماضي (2025)، بمثابة القشّة التي كسرت ظهر البعير بالنسبة إلى كثيرين داخل الحركة. ترفع “ماغا” شعار “أميركا أولاً”، ومن ثمَّ فإن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة واتساع الحرب إلى مناطق عدة في الإقليم وتزايد اعتماد إسرائيل على دعم واشنطن، استفزّ كثيرين داخل هذه الحركة رأوا في ذلك تعارضاً مع مبدأ عدم التدخّل في النزاعات الخارجية التي لا تعني الولايات المتحدة بصورةٍ مباشرة، فضلاً عن أن التحالف الأميركي – الإسرائيلي يضع عبئاً غير ضروريٍّ على الموارد الأميركية. أيضاً، ساهمت تقارير حقوقية توثّق العنف الإسرائيلي ضدّ المسيحيين الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية في تعميق الغضب بين صفوف أجنحة داخل هذه الحركة ضدّ إسرائيل. واليوم نتابع شخصيات مؤثّرة في “ماغا”، مثل عضو الكونغرس مارجوري تايلور غرين، والإعلاميّ اليميني الشهير تاكر كارلسون، ومستشار ترامب السابق ستيف بانون، يضغطون من أجل إعادة النظر في أسس وطبيعة العلاقة الأميركية – الإسرائيلية، وحجم الدعم المقدّم لها، وهو ما أثار ردّات فعل حادّة من التيار الموالي لإسرائيل داخل “ماغا”.
هذا التصدّع العميق، الذي يتّسع باطراد داخل صفوف اليمين الأميركي، أنتج ثنائيةً تناقضيةً مثيرة للاهتمام: “ماغا” (MAGA) مقابل “ميغا” (MIGA). الاختلاف الأساس هنا هو في حرفَين (A, I)، ولكنّهما يختزلان عمق الانقسام والتداعيات المستقبلية المحتملة له. لنشرح أكثر: “MAGA” هي اختصار بالإنكليزية لـ”Make America Great Again”. أمّا “MIGA” فهي اختصار لتحوير في هذا الاسم، ليكون “Make Israel Great Again”. بمعنى، أن من أطلقوا هذه التسمية على أنصار إسرائيل داخل حركة ماغا، يشكّكون في ولائهم لأميركا، ويحصرون الخلاف معهم في الأولويات، هل تكون “أميركا أولاً”، أم “إسرائيل أولاً”.
أمام هذا التحدّي الكبير لجأ اللوبي الصهيوني الأميركي إلى ورقة ابتزازه المفضلة: “معاداة السامية”، بذريعة أن من يقولون إن ثمَّة من يضع “إسرائيل أولاً” في الولايات المتحدة يحيلون ضمناً إلى تهمة “الولاء المزدوج” التي يَتَّهم بها بعضهم اليهود. لكن استخدام ورقة الابتزاز هذه ضدّ يمينيين أميركيين مؤثّرين ليس بالسهولة التي يمكن استخدامها ضدّ يساريين، ذلك أن اليمينيين يرون في أنفسهم أنهم عصب الولايات المتحدة والمدافعون الحقيقيون عن القيم المسيحية لأميركا. وبالتالي، يؤشّر هذا الجدال المحتدم إلى احتمال تفاقمه وتوسّعه، وهو ما قد يقود إلى تحوّلات مستقبلية في الموقف من إسرائيل داخل الحزب الجمهوري إن بقي الوضع على مساره الحالي.
لا يعني ما سبق أن إسرائيل خسرت الحزب الجمهوري، أو أنها في طريقها إلى خسارته، فما زالت غالبية القاعدة الجمهورية مؤيّدةً لإسرائيل وداعمةً لها، وأنصار إسرائيل بين المحافظين واليمينيين الأميركيين سيبذلون كل جهد ممكن لتجنّب تكرار سيناريو القاعدة الديمقراطية. وما جهود إسرائيل لتوسعة تأثيرها في فضاء منصّات التواصل الاجتماعي إلا وجه واحد من استراتيجية متعدّدة الأوجه للتصدّي لتراجع التأييد الأميركي والعالمي لها، بما في ذلك العمل استباقياً لكسب عقول وقلوب “جيل ألفا” (مواليد 2013 – 2027)، بعد أن خسرت “جيل زد” (1997 – 2012)… والسؤال، ماذا عن استراتيجيتنا نحن المؤيّدين للحقوق الفلسطينية؟ تلكم مسألة تستحقّ مساحة أخرى للنقاش.



