30 اغتيال رابين: مَن يضحك اليوم ملء شدقيه؟

صبحي حديدي

حرير- في إحياء الذكرى الـ30 لاغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، لا يعدم المرء معلقاً إسرائيلياً يربط بين واقعة 4/11/ 1995 و7/10/2023 من زاوية عجيبة وطريفة في آن: مناخات كراهية اليهودي لليهودي (وليس الإسرائيلي للإسرائيلي!) في الدولة ذاتها التي عُدّت «وطن اليهود». أو أخرى، يهودية إسرائيلية/ أمريكية هذه المرّة، تستعيد ذكرى اغتيال رابين على خلفية… «ليلة الكريستال»، 9 و10/11/1938، التي تناثر خلالها الزجاج في أعقاب موجات العنف النازية ضدّ يهود ألمانيا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا.

غير أن التزام الصمت، إزاء الذكرى الـ30 هذه، أصدق أنباء ودلالة ورمزاً لدى أمثال رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو، أو وزير الأمن القومي في حكومته إيتمار بن غفير: الأوّل لأنه كان كبير المحرّضين على العنف السياسي، حين قاد حشداً لليمين واليمين المتطرف رُفعت خلاله صورة رابين في زيّ ضابط غستابو نازي؛ والثاني لأنه، قبيل الاغتيال بأيام، تفاخر بسرقة قطعة من سيارة رابين وأطلق تصريحه الشهير: سيّارته هذه المرة، وهو نفسه لاحقاً. وليست البتة مفارقة، إلا عند غلاة المتعامين عن التكوين الإرهابي للكيان الصهيوني، أنّ الذكرى الـ30 تحلّ هذه الأيام، حين يبلغ التوحش العنصري والإرهابي أَوْجَه الأقصى غير المسبوق لدى الصامتَين، معاً بالتكافل والتضامن.

طراز آخر من الصمت، قسري على نحو أو آخر، قد يكون الإعلام الإسرائيلي فرضه على القاتل نفسه، إيغال عمير، الذي يقضي حكماً بالسجن المؤبد، ولا يملك رئيس الكيان حقّ العفو عنه بموجب قانون خاصّ سنّه الكنيست الإسرائيلي لكلّ مَنْ يرتكب جرم اغتيال رئيس وزراء. من جانبها كانت المخابرات الإسرائيلية قد أوصت المحكمة بالإبقاء عليه في زنزانة منفردة، لأنه «سجين أمني» وليس مجرّد قاتل، وشهيته للتحريض على الاغتيال مصدر أخطار دائمة على الدولة. «هل أحرّض على العنف أكثر من مروان البرغوثي أو الشيخ رائد صلاح؟»، تساءل عمير ذات يوم غير بعيد، في تبرير التماس النقل إلى زنزانة جماعية.

لكنّ صمت عمير لم يخنق ابتسامته الشهيرة التي تظلّ ماثلة في أذهان عشرات الآلاف من الإسرائيليين الذين احتشدوا مؤخراً لإحياء الذكرى الـ30، وهي تظلّ «ماركة مسجلة»، في التعبير الطريف الذي ابتكره كرمي جيلون، رئيس المخابرات الداخلية الإسرائيلية الأسبق، الـ «شين بيت»، ساعة اغتيال رابين. وعمير لا ينتهي من طلب حتى يلحّ على آخر، لأنه يعرف أنّ 30٪ من الإسرائيليين يعتقدون بوجوب تدبّر العفو عنه، وكانوا 20٪ بعد ساعات أعقبت الاغتيال؛ «لو اقتصر الاستطلاع على ناخبي اليمين، لكانت النسبة تجاوزت الـ 90٪»، والخلاصة من جيلون نفسه.

والحال أنّ الـ 30٪ وافية بذاتها وكافية، بل كانت أقلّ ممّا ينتظره المرء من المزاج العامّ الذي يسود المجتمع الإسرائيلي، إزاء الأسباب ذاتها التي أودت بحياة رابين 1995. وحين خرّ صريع طلقات يهودية صرفة، كان الأخير ـ الجنرال المتقاعد والمحارب المخضرم، للتذكير ـ قد وضع جانباً عقيدة الهراوة وتكسير عظام الفلسطينيين؛ لا بسبب من صحوة ضمير أو ارتداد أخلاقي عن تقنيات الردع والتأديب. تلك كانت نقلة براغماتية مفادها أنّ الاستمرار في الاحتلال سوف يعني استمرار انكفاء إسرائيلياً على الذات، وتفاقم أمراض تاريخية مزمنة. وما عجز رابين عن رؤيته، مثله في ذلك مثل السواد الأعظم من الكَذَبة «مهندسي السلام» الإسرائيليين، كان ويبقى الثقة الضعيفة أو الباهتة أو شبه المنعدمة التي اعتاد اليهودي على محضها للنوع البشري إجمالاً، وللجيران العرب بصفة خاصة.

يد عمير، «اليد اليهودية» كما وصفها بنفسه، تعمدت بدم رابين «الخائن، واليهودي بالمصادفة»، كما أضاف! وقاتله ضحك أكثر فأكثر حين رفض الناخب الإسرائيلي الانصياع إلى الشعار الذي رفعه حزب العمل أثناء الحملة الانتخابية التي أعقبت الاغتيال: «لا تمنحوا إيغال أمير سبباً للضحك». ضحك القاتل، بل كان الوحيد الذي صوّت مرتين كما قال الروائي الإسرائيلي عاموس عوز: مرّة باستخدام الرصاصة، ومرّة باستخدام ورقة الاقتراع. ومن سخريات الأقدار أنّ العبارة البليغة Ballot Not Bullet (ورقة الاقتراع لا الرصاصة) التي نحتها نتنياهو عشية اغتيال رابين، برهنت أنّ الفارق اللفظي لا يصنع أي فارق عملي على الأرض، وأنّ الرصاصة صوّتت تماماً بالفاعلية التي كانت لورقة الاقتراع، وأكثر بكثير ربما.

والحال أنّ حزب العمل ظلّ يبدو وكأنه لا يستعيد ذكرى اغتيال رابين، بقدر ما يعيد التذكير بالمأزق الشامل، السياسي والعقائدي والأخلاقي، الذي أخذ يغرق فيه رويداً رويداً منذ أيار (مايو) عام 1977. آنذاك كان الحزب قد مُني بهزيمة تاريخية ماحقة جاءت بغريمه التاريخي، حزب الليكود، إلى السلطة للمرّة الأولى في تاريخ دولة الاحتلال. وحين وقف مناحيم بيغن أمام جموع حاشدة انتخبت حزبه ونصّبته رئيساً للوزراء وانخرطت تهتف له: «عاش الملك! عاش الملك!»؛ كانت السياسة في الآن ذاته تغادر مبنى الكنيست، لتضع مخيّلة التلمود العنفية على شفاه الجموع. وكان ما تبقى من ضمير جَمْعي يهودي يغرق بسرعة قياسية في إيديولوجية العنف: الأعمى، الأسطوري، الهستيري، العنصري، والأبارتيدي بامتياز أقصى.

وإذا كان الطور ذاك قد بدأ بظهور مناحيم بيغن/ الملك، فقد كان من غير المنطقي أن يتواصل أو يكتمل من دون ظهور الحاخام/ الدجّال: مئير كاهانا، حامل السيف واللعنة والتذكرة، الملوّح بالقبضة اليهودية في وجه «عالم وثنيّ من الكلاب وبنات آوى». لقد انبثق من حيث يتوجّب له أن ينبثق، من شقوق صخور حائط المبكى، ومن هستيريا جامحة استولت على سلوكيات جموع لم تعد تهدر بغير الهتاف لملوك إسرائيل الجدد. وعلى العكس مما أشاعته أدمغة التفكير الصهيونية، كانت معادلة كاهانا بالغة البساطة وبالغة الدلالة: اليهودية نقيض الديمقراطية، والصهيونية (كعقيدة ومؤسسة وسياسة) لا بدّ أن تتماهى مع اليهودية، الأمر الذي يجعل الصهيونية ذاتها… نقيض الديمقراطية!

ظهور كاهانا كان مجرّد واحد من أعراض إرث لم يزرعه الحاخام التلمودي بيديه، ولن يتمكن من حصاده بعدئذ بيديه؛ ولكنه الإرث الذي تشظّى واستولد عشرات الكسور والصدوع في الضمير اليهودي، وعشرات الآلاف من نموذج عمير، اليهودي قاتل اليهودي. وبين حدَّيْ التلمود والأمن، واصلت خرافة «الديمقراطية» الإسرائيلية إعادة اكتشاف الجدل الطبيعي لارتطام حقائق الأرض بفانتازيا التوراة، والجدل العنيف للعلاقة بين القاهر والمقهور، والحقوق الفعلية التي تصنع الخيط الفاصل بين أرض قالت الأحلام إنها ستسبح بأنهار الحليب والعسل، والأرض ذاتها حين تقول الوقائع إنها لا تسبح إلا بأنهار الدماء والدموع. والرجل الذي أمر بكسر عظام الفلسطينيين (رابين) كان هو نفسه الرجل الذي اعتبره زعيم الليكود (نتنياهو) تجسيداً للغستابو الهتلري، وكان عملياً يحرّض على قتله بتهمة خيانة إسرائيل!

وفي قلب التجليات الأحدث لهذا المشهد، كان تهافتُ أمثال يائير لبيد ويائبر غولان وتسيبي ليفني وغادي آيزنكوت على منبر الخطابة خلال إحياء الذكرى الـ30، يتكامل مع غياب رؤساء حكومات سابقة أمثال نفتالي بنيت وبيني غانتس؛ ضمن مفارقة أخرى إسرائيلية غير مفاجئة: أنّ هذه «المعارضة» هي التي، على وجه الدقة، تستحقّ مجرم حرب مثل نتنياهو، سبق دافيد بن غوريون في عدد سنوات حكم الكيان، وهو محال على القضاء الإسرائيلي بتهم الفساد وخيانة الأمانة، ومطلوب من المحكمة الجنائية الدولية.

فكيف لا يواصل عمير الضحك، حتى من قلب زنزانته، وملء شدقيه أيضاً!

مقالات ذات صلة