ترامب ومروان… هل تُفتح بوابة الحُلم من باب الصّفقة؟

يحيى بركات

لم يقل ترامب نعم، ولم يقل لا.
ترك الباب مواربًا كمن يختبر الريح في صحراءٍ من نارٍ وغبار، يراقب اتجاه الغيوم قبل أن يعلن المطر أو يشعل حربًا أخرى. كلماته القصيرة لم تكن إجابة، بل رمية حجر في بركة راكدة. ارتجّت تل أبيب، ارتبكت رام الله، وتنفّست غزة للحظةٍ بين الشكّ والأمل.

ترامب ليس رجل مبادئ، بل صانع صفقات، يزن الأفكار كما تُوزن المعادن في سوق البورصة. وعندما لمح إلى احتمال طلب إطلاق سراح مروان البرغوثي، لم يكن يتحدّث عن الحرية، بل عن الإدارة. عن غزة التي يريدها صالحة للحكم، لا للانفجار. عن يومٍ تالٍ بلا صواريخ، ولكن أيضًا بلا كرامة حقيقية.

في إسرائيل، نتنياهو يعرف أن الرجل الأميركي لا يتحدث عبثًا. واشنطن أصبحت عمليًا في تل أبيب، كل شيء يُدار من هناك: المساعدات، المعابر، الخرائط، وحتى تفاصيل الأنفاس في غزة. لذلك يبتلع نتنياهو صمته كسمٍّ بارد، يتظاهر بالثبات فيما الأرض تميد تحته. يدرك أن أي رفض علني لترامب قد يكون نهاية المسرحية التي لعب بطولتها منذ سنين.

اليمين الإسرائيلي يصرخ بوجه الريح. بن غفير ومن يشبهونه يرفعون شعارات الدم والانتقام، يرفضون فكرة إطلاق مروان كأنها خيانة، لكنهم يدركون في أعماقهم أن هذا الأسير تحوّل إلى فكرة، وأن الأفكار لا تُسجن. الخوف منهم ليس من جسده الحرّ، بل من رمزيته التي لا تُقيد.

في رام الله، الصمت أكثر فصاحة من البيانات. القيادة تعرف أن خروج مروان من السجن لن يكون حدثًا عابرًا، بل زلزالًا يُعيد رسم المشهد. سيهتز كرسي كل من جلس عليه باسم الشرعية، لأن مروان لا يحتاج إلى كرسي. هو الشرعية بعينها، هو الذاكرة والوجدان والتمثيل الحقيقي لما فقدته السياسة من صدقٍ وشغف.

أما رائحة المال فتفوح في الأفق. رائحة صفقة تُطبخ على نارٍ إماراتية بمقادير أميركية وإسرائيلية. أصابع دحلان تظهر في الخلفية، ترسم على الرمال مشروعًا لإعادة توزيع الأدوار، وتلوّح بالدعم المالي لترتيب اليوم التالي. ترامب لا يمدّ يده إلا إذا كانت هناك حقيبة تنتظر.

وفي غزة، حماس تراقب المشهد بعينٍ يقظة. تدرك أن مروان ليس خصمًا بل غطاء وطني، يمكن أن يشكّل جسراً للخروج من العزلة. رجل الوحدة الوطنية لا رجل الفصيل الواحد. وإذا خرج من السجن، فسيكون خروجه أشبه بإزاحة جدارٍ بين الضفتين. ستراه حماس رصيدًا للوحدة، لا خصمًا في السلطة.

لكن مروان، الأسير الذي حفظ طعم الحديد وعرف وجه الزمن، لن يوقّع ورقةً بلا كرامة شعبه. يدرك أن من يُخرجه ترامب يريد به ترتيبًا، لكنه أيضًا يدرك أن الترتيب بلا عدالةٍ هو سجنٌ آخر، وأن الحرية التي تمنحها الصفقات تذوب سريعًا في ضوء الحقيقة. سيحاول أن يكون مروان الثورة داخل صفقة ترامب، لا مروان الصفقة داخل الثورة.

نتنياهو في مأزقٍ أخلاقي وسياسي. اليمين حوله يمزّقه، وترامب يضغط من فوق الطاولة ومن تحتها. السلطة تصمت، والمال يهمس، وغزة تنتظر. المشهد الفلسطيني أمام مفترقٍ نادر: إما عودة الروح من سجنٍ كان مرآةً للكرامة، أو استمرار المسرحية ذاتها بأدوارٍ جديدةٍ وأسماءٍ مستعارة.

الأسئلة كثيرة، لكن القادم أقرب مما يظنّ الجميع.
مروان، إن خرج، لن يخرج وحده. سيخرج معه زمنٌ طويل من الصبر، وذكريات المخيم، وأحلام الأمهات اللواتي لم يسلمن للظلام. سيعيد للسياسة وجهها الإنساني، ويذكّر العالم أن هذا الشعب لا يحتاج لمن «يديره»، بل لمن «يفهمه».

وعند المشارف التي تلوّح بعام 2026، يبدو أن التاريخ يتهيأ لمشهدٍ جديد.
ترامب يظن أنه يكتب النهاية، لكنّ الرياح التي تهبّ من فلسطين تعرف طريقها جيدًا.
قد تغيّر الوجوه، لكنها لا تغيّر الوعي. وما يبدو صفقة اليوم قد يصبح غدًا ولادةً جديدةً لوطنٍ لم يمت، بل ينتظر لحظة الفجر كي ينهض من تحت الركام.

يحيى بركات
مخرج وكاتب سينمائي
24 تشرين الأول / أكتوبر 2025

#ترامب
#مروان_البرغوثي
#غزة
#اليوم_التالي
#قراءة_سينمائية_في_السياسة
#على_مشارف_2026

مقالات ذات صلة