
في غزة لا يسمعون الأخبار!
سهيل كيوان
حرير- أكثر الناس الذين أتواصل معهم في قطاع غزة، عندما يتاح لهم ذلك، يقولون، إن الناس توقفوا عن سماع نشرات أخبار جولات المفاوضات، فحواسهم الخمس تعطيهم الإجابة الشافية عما يدور على أرض الواقع. الإبادة لم تتوقف ولا للحظة واحدة، ولا يريد الناس سوى أمر واحد فقط، هو وقف الحرب، لا يهمهم كيف، المهم هو وقف المجازر، وأوامر الإخلاء العشوائية بلا هدف، تستنزف آخر ما تبقى لهم من قوة.
كثير من الناس، خصوصاً المسنين، يرفضون الخروج من غزة والنزوح مرة أخرى، بعدما ذاقوا مرات مرارة النزوح خلال هذه الحرب. عادوا إلى بقايا بيوتهم، لأن النزوح نفسه لا يقل خطراً عن البقاء في البيت، أو بين أنقاضه. لا شيء واضح، القصف لا يتوقف، ورغم ذلك هناك بعض التفاؤل بوقفٍ لإطلاق النار، تلك الفُرجة الصغيرة من الأمل التي يحاولون التمسك بها.
حماس تطالب بضمانات لوقف الحرب وانسحاب الاحتلال من قطاع غزة بالتزامن مع تسليم آخر الرهائن، ونتنياهو يتملص من هذا الالتزام، لأن وقف الحرب والانسحاب، وإطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين يعتبر انتصاراً لحماس وهزيمة له. نتنياهو طلب من حلفائه في الحكومة عدم الخروج بأي تصريحات إلى الإعلام، ما يعني أنه يخفي نواياه الحقيقية، ويريد من حلفائه الصمت، وعدم الظهور بمظهر الرافض لخطة ترامب الطامح لنوبل للسلام، حتى يتم تنفيذ البند الأول وهو إطلاق سراح جميع الرهائن، ومن بعدها سوف يجد ألف حجة لاستئناف حرب الإبادة، بحجة تفكيك سلاح حماس، ومنعها من البقاء في قطاع غزة. من ناحيته يريد ترامب أن ينجز مهمة تحرير الرهائن ووقف الحرب، ولكنه في الوقت ذاته لا يستطيع الالتزام بهذا، لأنه لن يفرض على إسرائيل وقف الحرب تحتَ التهديد، هو يطلب من الجانبين الالتزام، وسوف يترك الباب مفتوحا لادعاء نتنياهو بأن حماس هي التي لم تلتزم بتسليم سلاحها. نتنياهو واثق من خطته في استئناف القتال بعد تحرير الرهائن، وفي الوقت ذاته، الاحتفاظ بالدعم اللامحدود من قبل ترامب وإدارته وإن كان على مضَض.
هناك من يزاودون على نتنياهو ليس فقط في حكومته الفاشية، بل هناك من المعارضة الذين ينهشون لحمه بادعاء أنه لم يقض على حماس كما وعد، وأنه كان بالإمكان عقد هذه الصفقة منذ ثمانية أشهر، عندما تم تنفيذ القسم الأول من الصفقة، وتهرب من إتمامها، واستأنف القتال. خلال هذه الأشهر الثمانية كان يمكن تجنب مقتل مئات الجُنود، إضافة إلى آلاف الجرحى والمتضررين نفسياً. لكن الأهم في هذه الأشهر الأخيرة هو التحول غير المسبوق في التضامن العالمي مع قطاع غزة وفلسطين، وإدانة وعزل الاحتلال، حيث إن وسائط التواصل مكتظة بالصور والأفلام الداعمة لغزة، وباتت غزة اسماً يجوب العالم من أقصاه إلى أقصاه، مقابل عزلة متفاقمة لإسرائيل رسمياً وشعبياً، حتى إن السائحين الإسرائيليين باتوا يواجهون متاعب في الأمكنة العامة، إذا ظهروا بشارات تدل على جنسيتهم في بعض المدن الأوروبية، وبعضهم بات يخشى الاعتقال بتهمة المشاركة في ارتكاب جرائم حرب. نتنياهو لا يريد القضاء على حماس فقط! بل على محمود عباس وسلطة رام الله كذلك، لأن سلطة رام الله حظيت باعتراف دولي واسع، وعودتها بشكل أو بآخر إلى غزة تعني وحدة الإدارة للضفة وقطاع غزة، وهذا سيكون أكبر فشل لنتنياهو. يصر نتنياهو على وصف سلطة رام الله بأنها داعمة للإرهاب، وبأن نشاطاتها الدبلوماسية لا تقل خطورة عن عمليات حماس «الإرهابية»، وبهذه الذريعة يعلن ضم المزيد من أراضي الضفة الغربية، وتقليص نفوذ وصلاحيات السلطة، بهدف الوصول في نهاية المطاف إلى حلها، وإنهاء فكرة الدولة الفلسطينية إلى الأبد. نتنياهو قدم لحلفائه من الصهيونية الدينية اتفاقاً مختلفاً عن ذلك الذي اتفق عليه ترامب مع الوفد العربي الإسلامي.
وزير خارجية باكستان يقول، إن الخطة المعلنة غير تلك التي اتفقوا عليها مع ترامب. هذا يعني أن خطة ترامب غير واضحة المعالم، وفيها تعميمات يفسرها كل طرف كما يشاء. نتنياهو أمِل بأن ترفض حماس مقترح ترامب. لكن حماس تتعرض إلى ضغوط هائلة، أولا وقبل كل شيء بسبب حرب إبادة المدنيين الفلسطينيين وخطر تهجيرهم. حماس تعرف ألاعيب نتنياهو وتعرف موقف ترامب الحقيقي منها جيدا، وتعرف موقف كل طرف من المشاركين مع ترامب في الاتفاق، فشكرتهم على مساعيهم وشكرت ترامب «على جهوده لوقف الحرب» ووافقت على مقترحه. نتنياهو يصر كذباً أنه يطبق صفقة ترامب، ويعتقد أنه قادر على العودة إلى القتال بمجرد استلام الأسرى والرهائن. نتنياهو واثق بأن ترامب لن يتخلى عنه، وأنه سيدعمه في كل حال كي يحقق ما يسميه «النصر الكامل»، وأن «الشرق الأوسط الجديد» في طريقه لأن يكتمل كما يتصوره، دون دولة فلسطينية، وأنظمة حاضنة تدور في فلك إسرائيل الكبرى، ورافضة لأي شكل من أشكال المقاومة. إلا أن ما يجري في أوروبا والعالم وبعض الدول العربية، يشكل ضغطاً هائلا على نتنياهو وعلى الأنظمة العربية وحتى غير العربية. إضافة إلى الخسائر التي يُمنى بها جيش الاحتلال، المُعلنة وغير المعلنة، والتذمر وحالات الانتحار العديدة بين صفوف الجنود، ولجوء حوالي ثلاثين ألف مواطن للعلاج النفسي، جراء الحرب حسب معطيات مؤسسة التأمين الوطني، كذلك الضغط اليمني الذي لا يستهان به على الملاحة وعلى سير الحياة الطبيعية في مناطق واسعة من إسرائيل.
تأتي التحركات التي تجري حول العالم في عشرات الدول، بعضها بمبادرات شعبية وأخرى بتأييد وتشجيع من أنظمتها، خرجت عن السيطرة التقليدية للإعلام الرسمي، الذي هيمنت عليه جهات صهيونية أو موالية لها، وهذا بفضل الانفجار الإعلامي العالمي، الذي بات متاحا للجماهير من مؤثرين وغير مؤثرين. هنالك تغييرات جوهرية تجري، مثل أنْ تفاجأ رئيسة حكومة إيطاليا وبعض وزرائها، بدعوى ضدهم في محكمة الجنايات الدولية بشبهة التواطؤ مع جرائم الحرب، هذا مؤشر جديد غير مسبوق على ما يجري على مستوى العالم. جماهير النوادي الرياضية الكبيرة في أوروبا التي تهتف لفلسطين وترفع رايتها، والإبداع في الصورة والصوت وفضح حرب الإبادة، هذا يشكل ضغطا كبيرا في كل الاتجاهات. الأعداد الكبيرة من المشاركين في أساطيل الحرية والصمود، التي لم تتوقف وتعلن أنها سوف تستمر حتى يُرفع الحصار عن قطاع غزة، فهذا ليس أمراً بسيطاً.
هذا يشير إلى تراجع الهيمنة الإعلامية الصهيونية على العالم، وارتفاع كبير في إدراك مئات ملايين من البشر أن ما يجري في فلسطين يمس كرامة كل إنسان، وأن الموقف من فلسطين وقضيتها بات مَحَكا لكل من يؤمن بأنه إنسان حر في هذا العالم، هذه باتت قضية مبدئية وفلسفية تلامس العمق الوجودي للإنسان وليس المعنى السياسي المُباشر لهذه القضية. عندما يركب ناشطون عرض البحر ويغامرون في الاقتراب من شاطئ غزة وهم يعلمون أنهم سيواجهون قوة احتلال همجية، لا تقيم وزناً لقوانين ولا لأخلاق، يؤكدون بهذا على أنهم أحرار، وأرواحهم وعقولهم المتحررة ترفض تجاهل ما يجري في قطاع غزة أو التسليم به، بل يهتفون في وجه الفاشي بن غفير، الذي جاء ليوبخهم خلال اعتقالهم، فوبخوه بهتاف «الحرية لفلسطين». الأوروبيون الذين يخرجون إلى الشوارع ويهتفون لفلسطين، والفنانون والشخصيات الأدبية والعلمية والرياضية، في الواقع يعلنون بهذا أنهم تحرروا من المؤثرات والهيمنة الصهيونية، والتخويف من تهمة اللاسامية وكراهية اليهود، التي سادت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأن حقبة احتكار الألم ودور الضحية حتى وأنت تمارس أبشع أنواع الإجرام في طريقه إلى نهايته، وبدء مرحلة جديدة تعامل فيها إسرائيل كما هي حقيقتها، وكما عومل نظام الأبرتهايد في جنوب إفريقيا.
هؤلاء الأحرار عبر العالم، يزيحون جانباً المعادلة التي سادت حتى الآن، بأن قضية فلسطين هي قضية عربية إسلامية في مواجهة إسرائيل والغرب وأمريكا! ويعلنون بأنها قضية ومسؤولية كل أحرار العالم ولا تخص العرب وحدهم. أكثر الناس في قطاع غزة توقفوا عن سماع الأخبار، وسلموا أمرهم إلى خالقهم، والوضع في داخل دولة الاحتلال لا يدعو إلى الطمأنينة، الصورة تشاؤمية، واحتمالات الكوارث قائمة بقوة. الجميع في مأزق سببه الأول والأخير هو الاحتلال الذي لا مفر من إنهائه، وإلا فالمزيد من الكوارث التي لن ينجوَ منها أحد.