
نقطة اللاعودة
عامر جبران
تحلّ علينا غدًا الذكرى الثانية لعملية “طوفان الأقصى”، التي تبقى ـ رغم ما لها وما عليها ـ الحدث الأبرز والمتدحرج على الساحة الدولية حتى اليوم. فقد ترتبت على هذه العملية نتائج عميقة، من بينها إدراج محكمة الجنايات الدولية أسماء نتنياهو وجالانت كمجرمين مطلوبين للعدالة الدولية، إضافة إلى خسارة كاميلا هاريس الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2024 بسبب غزة تحديدا حيث انقسمت قاعدة الديمقراطيين حول هذه المسألة مما أدى إلى خسارتها الانتخابات، واندلاع مواجهة إعلامية وأكاديمية وسياسية ورسمية بين الغرب ـ الشعبي والنخبوي وبعض الحكومات ـ وبين إسرائيل وحلفائها. كما شهدنا التحامًا مباشرًا ومفتوحًا بين إيران وإسرائيل، وإغلاق باب المندب أمام الملاحة المرتبطة بإسرائيل، فضلًا عن تحوّل واضح في الرأي العام الأمريكي ضدها، باعتبارها كيانًا طفيليًا ومحتلًا ومهيمنًا على القرار السياسي الأمريكي.
لقد أحدث طوفان الأقصى ثغرة كبيرة في جدار الوعي العالمي، إذ انهارت السردية الإسرائيلية وكُشف وجه إسرائيل الحقيقي كمُرتكبٍ لجرائم الترانسفير والفصل العنصري والإبادة ضد الشعب الفلسطيني على مدى سبعة وسبعين عامًا. كما أعاد الطوفان إلى الواجهة قضايا طُمست عبر الزمن، من أبرزها ما أثير حول دور الصهاينة في اغتيال جون كينيدي، وتفجيرات مركز التجارة العالمي عام 2001، ومعرفة إسرائيل المسبقة بهجوم السابع من أكتوبر وتسهيل وقوعه لتبرير إطلاق العنان لحربٍ بلا حدود ضد المنطقة، وخاصة قطاع غزة
أما عرض ترامب الأخير بوقف الحرب، فقد جاء لتحقيق جملة أهداف، منها إنقاذ سمعة إسرائيل الملطخة بدماء الأطفال والنساء والشيوخ، وتحصيل صورة “انتصار” رمزية عبر إخراج الأسرى الإسرائيليين، إلى جانب تركيز الجهود الإقليمية ضد إيران، وامتصاص الضغوط الشعبية الغربية المتزايدة لوقف المذبحة. وقد قوبل هذا العرض بترحيب عربي وإسلامي، وبقبولٍ مشروط من حركة حماس بعد إدخال تعديلات على المبادرة، تلاه ترحيب ترامب نفسه بالموافقة المشروطة، مما وضع إسرائيل في موقفٍ حائر شكليًا.
غير أن هناك مبالغة عامة في تقدير جدّية مبادرة ترامب، إذ يبدو أنه يسعى فقط لإحداث تأثير إعلامي إيجابي يوحي بالرغبة في إنهاء الحرب، بينما يُرجّح أن هدفه الحقيقي هو الخداع، من خلال إخراج الأسرى ثم استئناف العدوان بذريعة عدم التزام المقاومة بالاتفاق، كما حدث سابقًا حين اتهم مبعوثه ويتكوف حماس بخرق هدنة الربيع الماضي. وقد تكرّر هذا السيناريو مرارًا دون أن تتمكن المقاومة أو المجتمع الدولي من محاسبة إسرائيل أو الولايات المتحدة على استئناف الإبادة، في ظل فشل مجلس الأمن أربع مرات في إصدار قرارٍ لوقف المجازر والمجاعة في غزة.
تشير بعض التقارير إلى أن الولايات المتحدة تسعى لتسخين جبهات الصراع الدولية بغرض إخضاع الصين وروسيا دون الدخول في مواجهة مباشرة، بينما تردّ الدولتان بتصعيدٍ إعلامي مكثف. وبالنسبة لواشنطن، فإن الشرق الأوسط يشكل ساحة صراع “قابلة للاحتراق” دون عواقب مباشرة عليها، بل منطقة ذات عائد مرتفع في التأثير على أسعار الطاقة وخطوط التجارة الدولية، خصوصًا تلك المرتبطة بالصين والهند واليابان.
أما إسرائيل، فمنذ السابع من أكتوبر، تتصرف بعقلية عدوانية متصاعدة دون كوابح، إذ تخلّت عن سياسة الحذر الاستراتيجي وعن العمل وفق ميزان الربح والخسارة، وذهبت إلى استراتيجية المغامرة المفتوحة، ساعيةً إلى حسم ملفات الصراع وتحقيق الهيمنة الإقليمية على قاعدة: “ما لم يُحصَّل بالقوة، يُحصَّل بمزيدٍ من القوة”. لقد تجاوزت إسرائيل نقطة اللاعودة، ودخلت مغامرةً مكلفة لن تعود منها بخُفّي حنين، خاصة بعد الانهيار الكبير في سرديتها الصهيونية، وانكشافها إعلاميًا وقانونيًا وأخلاقيًا أمام العالم.
من جهتها، تدرك المقاومة الفلسطينية تمامًا فخّ “ترامب”، لكنها تجد نفسها مضطرة إلى مجاراته نتيجة الضغوط الإنسانية الهائلة الناجمة عن حربٍ بلا رحمة ولا سقف ضد المدنيين في غزة. وبقبولها المشروط للمبادرة، تُظهر المقاومة مرونة محفوفة بالمخاطر، نابعة من حرصها على حاضنتها الشعبية. وهي اليوم تتحرك على مسارين متوازيين:
المسار العسكري: مواجهة إسرائيل بما هو متاح من الوسائل القتالية البدائية، حتى باستخدام مخلفات العدو المسار السياسي: إبقاء باب التسوية مفتوحًا، وهو المسار الذي من أجله أطلقت المقاومة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023.
التقارير الإعلامية والاستخبارية تشير إلى أن الولايات المتحدة تقوم بنقل عتادٍ وطائراتٍ وقطعٍ بحريةٍ عسكرية، بينما تبدو إيران واليمن وربما لبنان أهدافًا محتملة لتصعيدٍ كبير مقبل
ويبقى السؤال الكبير:
ما هي ساعة الصفر؟
وما شروط اندلاعها؟
ولماذا تُشعل هذه الحرب إن كانت قادمة؟
وما علاقتها بحرب الإبادة في غزة؟
وهل ستكون ضرباتٍ قاضية أم جولاتٍ تُحسم بالنقاط؟