غزة بين قيد التهدئة وموت المقاومة

زياد فرحان المجالي

بينما تتقدّم في الكواليس مبادرات دولية لوقف إطلاق النار في غزة، بدأت ترتسم على الطاولة صيغة “مُغرية” في ظاهرها، مقلقة في جوهرها: صفقة تبادل أسرى بين حركة حماس وإسرائيل، مقابل تهدئة طويلة الأمد، وإعادة إعمار بإشراف دولي. في الظاهر، قد يبدو ذلك انفراجًا إنسانيًا مأمولًا، لكنه من منظور استراتيجي، كما تنقله مصادر إسرائيلية وغربية، ليس سوى محاولة لإخراج حماس من المعادلة الفلسطينية، لا عبر الحرب فحسب، بل من خلال تهدئة ناعمة، تُغلف بالضمانات وتُفرغ من المعنى.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عبّر عن هذه النوايا دون مواربة، حين قال في اجتماع المجلس الوزاري المصغّر (الكابينت) الذي انعقد في أواخر حزيران الماضي، إن لا عودة لحكم حماس في غزة، لا كجيش ولا كسلطة. هذا التصريح، الذي مرّ في الإعلام الدولي بلا تمحيص كافٍ، يكشف أن المطلوب ليس فقط إنهاء القتال، بل إعادة هندسة المشهد السياسي الفلسطيني، وغزة تحديدًا، من دون أي حضور مقاوم.

في هذا السياق، كشفت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية في عددها الصادر في يونيو 2025، عن تفاصيل خطة أميركية إسرائيلية مشتركة، مدعومة من أطراف عربية، تتدرج من تسليم الأسرى، نحو إنشاء إدارة مدنية “محايدة” للقطاع، تكون تحت إشراف أممي وأوروبي وعربي، على أن تُمنع بموجبها أي أشكال إعادة تسليح، أو إعادة بناء للقدرات العسكرية. الإعمار، في هذا النموذج، لن يكون مكافأة للصمود، بل مكافأة على التخلّي.

لكن هل يُمكن البناء على ضمانات دولية بعد تجربة عقود من النكوص والتنصل؟ في عام 2011، وبعد صفقة شاليط التي رعتها القاهرة، أعادت إسرائيل اعتقال العشرات من الأسرى المحررين، بل واغتالت بعضهم لاحقًا، رغم وجود تفاهمات أمنية واضحة. وفي أعقاب العدوان الإسرائيلي عام 2014، لم تُنفّذ تعهدات بفتح المعابر أو رفع الحصار، رغم توقيع تفاهمات برعاية الأمم المتحدة. أما في تفاهمات عام 2019، فقد تمّ إيقاف المنحة القطرية فجأة، دون سابق إنذار أو مراعاة للوضع الإنساني. هذه المحطات، بمجملها، تُقدّم سجلًا لا يدعو إلى الثقة بأي ضمانات جديدة تُطرح اليوم، حتى وإن أتت من أطراف كبرى.

اليوم، تجد حماس نفسها أمام اختبار سياسي مركّب: إن سلّمت الأسرى دون حماية سياسية حقيقية، تكون قد فرّطت بأقوى أوراقها التفاوضية. وإن رفضت الدخول في الصفقة وفق هذه الشروط، تُتّهم بأنها تُعرقل “فرصة تاريخية” للإعمار وإنقاذ القطاع. في الحالتين، هي في مأزق، غير أن الأخطر هو القبول باتفاق لا يضمن الحد الأدنى من بقاء المقاومة.

ما يزيد من تعقيد الصورة أن الطرح الجاري لا يُقدَّم كخيار، بل يُمارس كضغط. بين استمرار الحرب التي تستنزف السكان، وبين تهدئة مشروطة تنزع سلاح المقاومة، تُطرح الأسئلة الصعبة على سكان غزة، كما تُطرح على قادة حماس. ماذا لو وُضع هذا السيناريو في استفتاء شعبي؟ هل يختار الناس استمرار القتال في سبيل بقاء حماس في السلطة، أم يفضّلون تهدئة تنهي سنوات الجمر؟ لا توجد إجابة واحدة. ولا يمكن النظر لهذا السؤال من زاوية عاطفية أو حزبية.

إن حماس، كما يعرف الجميع، ليست غاية في ذاتها. هي أداة في يد مشروع مقاومة. فإن بقيت على قيد الكفاح المقاوم، حتى ولو خارج السلطة، فقد أنجزت دورها التاريخي. أما إذا تمسكت بالسلطة على حساب السلاح، وارتضت بأن تكون جزءًا من سلطة محلية لا تختلف عن تجارب سابقة، فستجد نفسها عاجلًا أم آجلًا خارج الزمن السياسي الفلسطيني.

اللافت أن نتنياهو قبل – حسب مصادر إسرائيلية – بالخطة الأميركية للتفاوض، لأنه يعتقد أن حماس ستخضع أمام الضغط الإقليمي والدولي. ويُقال إنه أبلغ إدارة ترامب الجديدة أنه لن يعارض خطة تهدئة مشروطة، طالما أنها تقود إلى ما سماه بـ”غزة بلا حماس”. ونُقل عنه – بحسب صحيفة هآرتس – أن القضية الجوهرية ليست في التسوية، بل في نزع الفكرة من جذورها.

ما يجري اليوم يُعيدنا إلى تجربة منظمة التحرير في التسعينيات. حين وقّعت اتفاق أوسلو، ظنّت أنها تدخل مسار الدولة، لكنّها خرجت منه بسلطة بلا سيادة، وبمشروع سياسي بلا مقاومة. واليوم، الخطر ذاته يتكرر، ولكن بثوب جديد: غزة بلا مقاومة، مقابل فتات إعادة إعمار وممرات إنسانية تحت الرقابة.

لا شيء يمنع التسويات السياسية إذا كانت تحفظ الكرامة، وتؤسس لتحرير قادم. لكن التخلي عن السلاح، أو التحلل من وظيفة المقاومة، لا يؤدي إلا إلى نكبة جديدة. والفرق أن هذه النكبة لن تحمل دبابات الاحتلال، بل ستُحمل باسم التهدئة والتفاهم.

التساؤل العميق الذي يُفترض أن يُطرح الآن ليس إن كانت حماس ستوافق أو ترفض، بل ما إذا كانت التهدئة المطروحة هي محطة تعافٍ لغزة، أم لحظة تصفية للمشروع الوطني الفلسطيني. التاريخ سيحكم، ولكن قبل أن يفعل، يجب أن تحكم الشعوب.

إن الأسرى الذين تحتفظ بهم المقاومة هم ورقة قوة لا غاية بذاتها. والتهدئة، حين تأتي على حساب المبدأ، تتحوّل إلى قيد. وإذا كانت الحرب قد دمّرت الحجر، فإن صفقة غير متوازنة قد تدمّر المعنى.

إن التخلي عن المقاومة – في سياق الصراع المفتوح مع مشروع توسعي كإسرائيل – لا يُسمى سياسة. يُسمى استسلامًا. وحين يُطلب من الحركة أن تخرج من السلطة مقابل إعمار مقيّد، فإن السؤال ليس فقط عن الثمن، بل عن ماذا تبقّى أصلًا.

ما يُرسم لغزة ليس فرصة، بل مصيدة ملوّنة، وما بعد تسليم الأسرى أخطر من الحرب نفسها، لأن الحرب تُخاض، بينما التهدئة تُراكم.

يبقى أن نقول: نعم لتسليم الأسرى في إطار يحفظ المبدأ، لا التنازل. نعم لإعادة إعمار تحفظ الكرامة، لا تسلّم الرقاب. ونعم لأي مبادرة لا تُفرغ غزة من فكرتها الأعمق: أن المقاومة ليست حدثًا، بل معنى.

وغزة لا تعيش على الكهرباء فقط، بل على الكبرياء.

مقالات ذات صلة