
إيران بين فكيّ الوحش
سهيل كيوان
حرير- في ولايته الأولى انسحب دونالد ترامب من الاتفاقية التي سبق ووقّعت مع إيران عام 2015، حول تخفيض تخصيب اليورانيوم ورفع العقوبات التدريجي عنها. إسرائيل لم تكن راضية عن الاتفاق ومعها بعض دول الجوار. ترامب انسحب من الاتفاقية عام 2018، وأعاد فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، وآمن بأنّ الضّغط الاقتصادي إلى جانب التلويح بالحلّ العسكري سيقنع القيادة الإيرانية بالتّخلي عن برنامجها نهائيّاً. كان مطلب ترامب هو وقف تخصيب اليورانيوم تماماً، وتفكيك البنية التحتية النووية الحيوية، وعدم بناء منشآت تخصيب جديدة. ونقل اليورانيوم المخصّب إلى دولة ثالثة، والسماح بزيارات تفتيش مفاجئة من قبل الوكالة الدولية للطاقة النووية، والتنازل عن ترسانتها الصاروخية التقليدية، ووقف ما سماه العداء لجيرانها بما في ذلك إسرائيل.
بعد عودته إلى الرئاسة، دارت مفاوضات غير مباشرة، وفي آخرها منح ترامب إيران مهلة ستين يوماً للموافقة على شروطه، لكنّها رفضت شروطه التي اعتبرتها غير عادلة، وأن من حقها التخصيب وبدأت مفاوضات غير مباشرة بوساطة عمانية. إيران اعتبرت أنّ تهديدات ترامب بـ»وسائل أخرى»، هي جزء من طريقته لإنجاز صفقة. وأكدت أنها دولة عضو في معاهدة منع انتشار السّلاح النووي، وتلتزم بالقانون الدّولي. وأن فتوى المرشد الأعلى علي خامنئي تحرّم صناعة هذا النّوع من السّلاح.
في اليوم الأول بعد السّتين يوما، التي منحها ترامب والذي صادف في 13 من يونيو الجاري، ضربت إسرائيل ضربتها التي أعدت لها منذ سنوات، وحققت نجاحا كبيراً، وصفه ترامب بالممتاز. بعد أيام من بدء العدوان على إيران أعلن ترامب أنّ على إيران أن تستسلم من دون قيد أو شرط، وهذا المطلب في جوهره ليس دعوة للحلّ، بل أداة للابتزاز السّياسي، ومحاولة لإحراج القيادة الإيرانية داخل وخارج إيران. أمر ترامب بنقل قاذفات بي 52 في تلويح لاستعمالها في ضرب المنشآت النووية الأكثر تحصيناً، خصوصا منشأة فوردو القائمة في جبل بالقرب من مدينة قُم. ترامب يعلم تماماً أنّ القيادة الإيرانية لن تقبل شرطه باستسلام غير مشروط كما يطلب، وقد استدرجها في التلاعب بموقفه «المعارض» لهجوم على المنشآت النووية. طبيعة النظام الإيراني لا تسمح بهذا النّوع من الخنوع، مهما أبدى من دبلوماسية ومرونة، لأنّ هذا يعني الانتحار الرّمزي لما تمثّله قيادة الفقيه من رموز روحية وتاريخية، قبل أنْ تكون انكسارا سياسيا وعسكريا، وهو في الواقع يحشر القيادة الإيرانية ويضعها بين خيارين كلاهما مرّ، الاستسلام غير المشروط، هو عملياً قبول شروط كانت ترفضها قبل الحرب، وهذه مكافأة لنتنياهو على عدوانه، ويأتي هذا في خضم حرب الإبادة في قطاع غزّة، وبعد تحجيم دور حزب الله في لبنان، والضربات المؤلمة التي تكبّدها اليمن، واضطرار إيران لسحب قواتها من سوريا. الموافقة على شروط ترامب سوف تثير تساؤلات داخلية، ما دمتم ستصلون إلى هذه النتيجة، فلماذا لم تقبلوا المقترحات قبل الدّمار والخسائر الكبيرة بالأموال وبالأرواح؟ هكذا يريد ترامب أن يعد لتدخّله إلى جانب إسرائيل في الهجمات وليس في الدّفاع فقط، ويلبّي بهذا إلحاح نتنياهو الذي يدعوه للمساعدة الهجومية، وتصوير هجماته كأنّها اضطرارية وبعد نفاد الفرص الأخرى لوقف مشروع إيران النووي. طلبُ ترامب من سكان طهران إخلاء مدينتهم، إلى جانب التلويح بالقبضة العسكرية، هو تدخّل هجومي لزرع الشّك والانقسام والفوضى داخل إيران نفسها. قد تظهر أصوات داخل إيران تطالب بالحفاظ على ما تبقى، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقبل المزيد من الخسائر التي ستذهب هباءً، لأنّه لا أمل لإيران في الانتصار على أمريكا، ناهيك من دول أخرى مستعدة للدعم، بمجرد دخول أمريكا الحرب، طبعا هذا إضافة لقوة إسرائيل.
شرط ترامب يشبه شرط نتنياهو لوقف حرب الإبادة في قطاع غزة، وهو استسلام المقاومة غير المشروط، لوقف حرب الإبادة، وهو يدرك أنّ المقاومة لن تقبل شرطه، لأنّ هذا يعني وضع رقاب كوادرها تحت المقصلة. طلب ترامب من إيران الاستسلام، موجّه إلى العالم وليس لإيران فقط، خاصة للدّول السّت – ألمانيا اليابان إيطاليا بريطانيا فرنسا وكندا، التي أعلنت وقوفها إلى جانب إسرائيل، ورأت في حربها هذه حقاً لها في الدفاع عن نفسها. وتدعو إلى «وقف التصعيد في الشّرق الأوسط». عملياً فهي تدعو إيران إلى الرضوخ لشروط ترامب ونتنياهو، بدعوى «وقف التصعيد» ولتجميل الموقف فهي تدعو كذلك إلى وقف الحرب في قطاع غزّة. القيادة الإيرانية من جهتها تقول إنّ أولويتها الأولى الآن هي ردع العدوان، الذي يتعرّض له الشعب الإيراني، وتعلن بأنّها ستوقف إطلاق الصواريخ بعد وقف إسرائيل لعدوانها. طبعاً نتنياهو لن يتوقّف قبل تحقيق أهدافه، فالثّمن الذي يدفعه الشعب في إسرائيل ما زال «مقبولا» مقارنة بالإنجاز الذي سيحقّقه، والذي صوّره على أنّه حربٌ وجودية لإسرائيل، وحظي حتى الآن بارتفاع كبير في شعبيّته بعد نكوصها، وأعاد لنفسه صورة البطل الحازم، خصوصاً أن هذا يأتي بعد حرب تدمير غزة وتحييد حزب الله، ويحظى بدعم كامل من المعارضة في مواجهة إيران. نتنياهو سيواصل لأنّه في كل الحالات ضامنٌ لتدخل أمريكا الدفاعي أولا، والتسليحي، كما هو الحال منذ بدء العدوان، ويطلب التدخّل الهجومي كذلك، وهو ما يلوّح به ترامب حاليا من خلال إعداد طائرات بي 52 العملاقة القادرة على قذف قنابل خارقة للتّحصينات. وترامب يغريه جدا الدّخول في الحرب لتسجيل انتصار عسكري مضمون يظهر فيه كبطل منقذ لمصالح أمريكا وحلفائها.
إيران من جانبها تحاول تجنّب التدخل الأمريكي الهجومي المباشر من خلال الإعلان المستمرّ بأنّها لن تتعرض لقوات أو مصالح أمريكية، ما دامت هذه لا تهاجمها. على أمل أن تحول دون موافقة الكونغرس التي يحتاجها الرئيس الأمريكي لدخول حرب شاملة. لكن الدّستور يتيح للرئيس القيام بضربات وقائية، أو استباقية في حالات الخطر المُحدق، هذا على اعتبار أن الرئيس سيلتزم بالدستور، ثم إن موقف أعضاء الكونغرس قد يتغيّر وليس ثابتاً. في الوقت ذاته تلوّح إيران بورقة إغلاق مضيق هرمز وتلغيمه في وجه الملاحة الدولية، وضرب قواعد وأهداف أمريكية في المنطقة، في حال شاركت أمريكا في الهجوم عليها، هذا يعني ضربة كبيرة للاقتصاد العالمي، الذي يتغذى بعشرين في المئة من وقوده اليومي من هذه الطريق. بهذا تضغط ليس على أمريكا فقط، بل على أصدقاء إيران نفسها كذلك وتحثهم على عمل شيء ما لمنع الوصول إلى هذه المرحلة، وتحاول تجنيد جبهة من داخل أمريكا والعالم تضغط باتجاه منع ترامب من اتخاذ القرار بالهجوم عليها، لمنع حدوث أزمة اقتصادية عالمية، ولكّن في الوقت ذاته، إذا قامت أمريكا بالعدوان المباشر، وردت إيران بإغلاق مضيق هرمز فإن الحلف الدولي سيكون جاهزاً بقيادة أمريكا لفتحه بالقوة، وإذا كانت إيران قد حاربت العراق ثماني سنوات، فإن هذه المعايير لا تقارن بقوة أمريكا وحلفائها.
نتنياهو سيحاول بكل ما يستطيع جرّ أمريكا وحلفائها إلى نقطة اللاعودة في حرب ضد إيران، حتى قبيل الحرب مارست إيران اللعبة بصورة ممتازة، الآن بات وضعها أضعف، ومهما كانت قدرتها على إلحاق الأذى في المعتدين، فإن نظام آيات الله أمام المرحلة الأخطر منذ استلامه السلطة عام 1979، وهو بين فكّي الوحش، أو «اللبؤة»، وأعتقد أنّه سوف يمسك بأيّ سُلّم يقدّم له من أي طرف كان للنّزول عن الشّجرة العالية، وسوف يضطر أن ينحني حتى أقصى درجات الانحناء، كي لا يصل إلى مرحلة هرس العظام التام.



